بقلم: رياض بوعزة – العرب اللندنية
الشرق اليوم – أزمة فقدان استدامة توريد الغاز في أوروبا تزحف بشكل خطير، وتنتفخ معها فقاعة المخاوف كل يوم خشية أن تضطر دول القارة إلى إغلاق مصانعها من أجل أن تضمن تدفئة المنازل، ليس بسبب الارتفاع القياسي للأسعار نتيجة الحرب في أوكرانيا وإنما لأن ورقة الإمدادات الرئيسية من هذا المورد المهم لا تزال في قبضة الرئيس فلاديمير بوتين الذي يتحكم بها ضمن اللعبة الجيوستراتيجية مع الغرب.
أوروبا منذ أكثر من شهر ومع استمرار الأزمة الروسية – الأوكرانية لا تزال تضج أروقة صناعة القرار فيها بالعناوين البراقة للتخلص من كل رابط مع موسكو وأن الوقت قد حان لاستعادة السيطرة على إمدادات الطاقة لديهم. ولكي يُفعّلوا “اتحادهم” قدموا خططا سريعة التنفيذ من بوابة العقوبات الاقتصادية والمالية ضد موسكو وبدعم من حليفتهم الولايات المتحدة.
يبدو أن الأوروبيين في ورطة لأنهم لم يدركوا بعد حجم الكارثة التي حلت بهم لسبب وجيه وهو أنه لا يوجد من يعوض الغاز الروسي على النحو الذي يتطلعون إليه. حتى كبار المنتجين مجتمعين ليس بإمكانهم تعويض النقص المحتمل. إذا من أين سيأتون بنحو 150 مليار متر مكعب سنويا بحيث لا يحصل تعطل في وصول الشحنات؟
تستعد كل بلدان أوروبا، التي تزودها روسيا سنويا بنحو 40 في المئة من احتياجاتها من الغاز ونحو 30 في المئة من احتياجاتها من النفط، لستة أشهر أو أكثر من ترشيد استهلاك الطاقة. وتبدو ألمانيا المعروفة بـ”مصنع أوروبا” التي تستورد ثلث حاجتها من النفط ونحو 55 في المئة من الغاز المستهلك وحوالي 45 في المئة من الفحم الحجري من هناك الأكثر تضررا من أي خطوة في هذا الاتجاه.
قبل الحرب في أوكرانيا، كان الهدف الأكثر إلحاحا لسياسة الطاقة بالنسبة إلى أوروبا هو البصمة الكربونية. والآن ولأسباب جيوسياسية أكثر منها اقتصادية تندفع دول القارة بتحفيز ودعم من واشنطن إلى تحقيق استقلالها من الطاقة. ولتحقيق ذلك يحتاج صناع القرار إلى إعادة تقييم للمخاطر الناتجة عن فكرة التخلص من الاعتماد الشديد على الطاقة الروسية أولا.
لا يوجد ما يوحي أن بمقدور الأوروبيين التخلص سريعا من الإمدادات الروسية القادمة عبر خط نورد ستريم 1، أو تلك التي تعبر الأراضي الأوكرانية، مع أن أكثر المتفائلين من زعماء الاتحاد يتوقع تقليصه إلى النصف في الصيف المقبل، وأن يتم خفض الواردات بمقدار الثلثين بحلول العام المقبل في أقصى تقدير. لكن الاستغناء عنه تماما سيتطلب الانتظار حتى نهاية هذا العقد.
من الناحية النظرية قد يكون ذلك ممكنا، ولكن يجب أن تجيب أوروبا على عدة تساؤلات وهي، من هو المصدر البديل؟ وكم مدة العقود؟ وكيف ستتم عملية التزود خاصة وأن تكاليف ضخ الغاز بالأنابيب أقل من نقلها بسفن الشحن؟ ثم هل أن البنية التحتية للتخزين لديها كافية؟
الأمر يبدو في غاية التعقيد، فلا النرويج، التي تعد ثاني مزود أوروبي لدول شمال القارة بعد روسيا، أو الجزائر التي تضخ غازها عبر أنبوبين إلى إيطاليا وإسبانيا بعد تعليق التصدير بواسطة خط أنابيب المغرب العربي – أوروبا الذي يمر بالأراضي المغربية، أو حتى قطر التي تزود أوروبا بنحو 20 في المئة فقط من احتياجاتها السنوية، قادرة على تعويض الغاز الروسي.
وحتى مع عزم الولايات المتحدة مد حلفائها بحوالي 15 مليار متر مكعب هذا العام، وهو ما يعادل عشر ما يستقبله التكتل من غازبروم كل عام، ستكون الوضعية غامضة.
إن إيجاد مصادر بديلة للغاز الروسي إلى أوروبا سيعني عمليا إرغامها على توريد احتياجاتها السنوية بتكاليف أكبر وبشروط ليست مجزية وخاصة تلك القادمة بسفن الشحن الأميركية. كما أن الدول المنتجة القريبة من القارة لا تمتلك البنية التحتية الكافية لمثل هكذا طلب. وعلاوة على ذلك فإن أي استثمار جديد يتطلب في المتوسط سبع سنوات حتى يبدأ الإنتاج فعليا.
على افتراض توفر مصادر بديلة، فإن حصول الأوروبيين على أسعار تنافسية مثل التي تقدمها غازبروم، في محاولة للوصول إلى نقطة التعادل في تكاليف الشحن التي ستكون باهظة لو توقفت الإمدادات الروسية تماما، وهذا أمر يبدو شبه مستحيل على الأقل في المدى القريب، لأن ما تقدمه موسكو مرتبط بمدى طول العقود وبميزة كل سوق. وهذا غير متاح مبدئيا إلا بالتعاقد مع ذراع الطاقة للحكومة الروسية.
ألمانيا التي تفتقر إلى محطات استيراد لتحويل الغاز الطبيعي المسال تمضي في مشروعين بمليارات من اليوروهات في بحر الشمال. كما أعادت الحرب إحياء اهتمام إسبانيا بمد خط أنابيب غاز بنصف مليار يورو عبر جبال البيرينيه إلى فرنسا والذي تم التخلي عنه في 2019. وإذا تم بناؤه فسوف يسمح للغاز المستورد في إسبانيا والبرتغال كغاز طبيعي مسال بالوصول إلى أجزاء أخرى من أوروبا.
لكن ذلك لن يكون كافيا إذ ستبقى أوروبا تشكل السوق الرئيسية لشركة غازبروم لفترة من الوقت حتى مع محاولات مقاطعة موسكو وذلك لتفادي الأسوأ قبل الشتاء المقبل.
ما يحدث اليوم يعد أكبر أزمة صناعية أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، وإذا كانت ألمانيا تستعد لمثل هذا الإجراء بعد تأكيد مسؤوليها وعلى رأسهم المستشار أولاف شولتس أن الحكومة اتخذت خطوات مهمة للتحرر من الواردات الروسية، فإن غيرها من الأوروبيين الذين يعتمدون على الغاز الروسي بحال أسوأ وليس بمقدورهم تحمل تكاليف سياسية واقتصادية باهظة.
وهذا يعني أن كل ما يتم تداوله عن بدائل سريعة للنفط والغاز الروسيين لا يبدو واقعيا ويبدو ضربا من الدعاية، إذ أن صادرات الولايات المتحدة وقطر وأستراليا والنرويج مجتمعة لا يمكنها أن تحل محل الصادرات الروسية. وإلى حين اتضاح الرؤية أكثر سننتظر ماذا ستقدم خطة المفوضية الأوروبية التي سيتم الإعلان عنها منتصف مايو المقبل لتحقيق حلم الابتعاد عن فلك روسيا والذي قد لا يتحقق.