بقلم: د. محمد العسومي – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – تترسخ القناعة أكثر من أي وقت مضى لدى المتخصصين بأن هناك نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب في حالة تبلور بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث نمت بذرة هذا التشكل في السنوات الأخيرة نتيجةً لتغيرات جذرية في العلاقات الاقتصادية الدولية تمَّت بهدوء لتشكل أرضيةً لعالَم جديد متعدد الأقطاب مختلف تماماً عن مثيله الذي نجم عن اصطفاف القوى بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن ما هي طبيعة النظام الجديد؟ وما الفروقات بينه وبين النظام السابق؟ لقد اقتصر الصراع بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، على الجوانب العسكرية والجيوسياسية، دون الجوانب الاقتصادية، إذ كان هناك نظامان اقتصاديان؛ الأول رأسمالي بهيمنة أميركية مطلقة، وهو الأقوى بحكم القوة المالية للولايات المتحدة الأميركية التي سيطرت على منظمات عالمية مهمة، كصندوق النقد والبنك الدوليين، يقابله نظام اشتراكي لم يتمكن من استغلال كافة الثروات والقدرات الاقتصادية المتوفرة لديه بسبب طبيعة الملْكية العامة التي أعاقت تطوير البنية الاقتصادية بما يتناسب والاحتياجات التنموية، وبالتالي كان نظاماً هامشياً من الناحية الاقتصادية، وذلك رغم قوته العسكرية وتأثيره الجيوسياسي الكبير.
أما الآن فإن العالَم يقف أمام تشكل نظام متعدد الأقطاب، إلا أنه مختلف تماماً؛ فالصين وروسيا اللتان تشكلان ضلعي مثلث هذا النظام إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية اندمجتا بصورة كاملة في النظام المالي والاقتصادي الرأسمالي وشكّلتا جزءاً أساسياً منه، وانضمتا إلى صندوق النقد والبنك الدوليين وباقي المنظمات الاقتصادية العالمية. ولذلك لم يعد هناك نظامان، رأسمالي واشتراكي، وإنما نظام رأسمالي وحيد اندرج فيه الجميع، بمن فيهم الصين التي يحكمها «الحزب الشيوعي الصيني».. مما يعني أن النظام الجديد لتعدد الأقطاب أضاف المنافسةَ الجيواقتصادية إلى المنافسة العسكرية والجيوسياسية.
وهنا بالذات يكمن أخطر تهديد للهيمنة المالية الأميركية، وبالأخص من جانب التنين الصيني الذي أوجد مؤسسات تكنولوجية ومالية واقتصادية منافِسة بقوة لمثيلاتها الأميركية، وهو ما لم يكن متاحاً للاتحاد السوفييتي السابق الذي أنهكه سباق التسلح بسبب ضعف بنيته الاقتصادية، وهو ما تحاول روسيا تفاديه الآن، إذ حققت تقدماً كبيراً في هذا الجانب.
وفي مقابل شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة، تشكَّلت شركات مماثلة صينية، بتقنيات عالية وأسعار تنافسية لتكتسح بلدان العالم النامي، بل وحتى البلدان المتقدمة، مثل ألمانيا وبريطانيا، حيث تصدت واشنطن بقوة لإسقاط اتفاق شركة «هواوي» الصينية مع لندن، بحجة الأمن القومي، كما شكَّلت الصين شبكاتها الخاصة بالإنترنت والتواصل الاجتماعي.
أما في مجال المعاملات النقدية والمالية، فإنه مقابل نظام «تشيبس» الأميركي، أسست الصينُ نظام «سيبس» لاستخدام عملتها «اليوان» في التعاملات الدولية، مما يتيح بديلاً للنظام الأميركي «تشيبس»، بل وحتى لنظام «سويفت» للاتصالات المالية العالمية بين البنوك والذي يتخذ من بلجيكا مقراً له.
كل ذلك يعني أنه سيكون هناك، ولأول مرة، نظامان ماليان عالميان يمكن من خلالهما انتقال الأموال، وذلك بدلاً من نظام واحد تتحكم فيه قوة واحدة بعملتها التي ستفقد بدورها جزءاً مهماً من هيمنتها، مما يعد تطوراً مثيراً قادماً لا محالة ولو بعد حين، حيث تحاول روسيا الآن الاستفادة من النظام الصيني بعد أن أُبعِدت من نظام «سويفت»، وكانت من أكبر مستخدميه، مما يعكس أهمية الاقتصاد الروسي ودورَه المتنامي في الاقتصاد الدولي.
وفيما عدا روسيا، فإن دولاً أخرى مهمة اقتصادياً ومالياً، مثل الهند، أبدت رغبتها في استخدام النظام المالي الصيني، رغم توتر علاقاتها مع الصين جراء الخلافات الحدودية بينهما والتي لم تمنع البحث عن بدائل تدعم تعدد أقطاب النظام المالي العالمي الجديد. وبالنتيجة، فإن السنوات القادمة ستشهد صراعاً عنيفاً، جيوسياسياً وعسكرياً وجيواقتصادياً، بين قوتين، الأولى متراجعة والأخرى منطلقة بقوة، وهو ما سينعكس إيجابياً على المعاملات المالية والتجارية الدولية بفضل كسر الاحتكار السابق وتَوفُّرِ بدائلَ سيتيحها النظامُ الجديدُ لتعدد الأقطاب.