بقلم: ديفيد فون درهل – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – إنها سمة أميركية… الاعتقاد أن التاريخ يبدأ غداً. الأمس مات وولى، كما قال مؤلف الأغاني كريس كريستوفرسون. وغداً صفحة فارغة يمكن كتابة أي قصة جديدة عليها. من وقت لآخر، نقتبس من حكمة الكاتب ويليام فوكنر: «الماضي لا يموت أبداً. إنه حتى ليس ماضياً». ولكنه نوع من الألغاز أكثر من كونه إقراراً بسيطاً بالحقيقة.
وها نحن مرة أخرى نعيش نفس أحداث عام 1948، أو ربما عام 1939 أو حتى عام 1919. إن عملية القرن العشرين لتحطيم الإمبراطوريات – الإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، والإمبراطورية البلجيكية، والإمبراطورية البريطانية، والإمبراطورية الفرنسية، والرايخ الألماني – مطولة وعنيفة بشكل بشع. ولم تنتهِ. إنها حتى ليست ماضياً.
كانت هذه هي البصيرة التي استرشدت بها مادلين أولبرايت. كان لديها شعور قوي بوجود الماضي، وإدراك أن القرن العشرين المتفجر وضع أجزاء من العالم في حالة حركة لم تهدأ. عندما كانت طفلة، فرت من النازيين ورأت القنابل تمطر سماء أوروبا. وفي 23 مارس، عندما توفيت أول وزيرة خارجية أميركية عن عمر يناهز 84 عاماً، عادت القنابل تمطر أوروبا مرة أخرى – لنفس السبب تقريباً. لا يزال الناس يتقاتلون على تلك الأجزاء من الإمبراطورية.
كان جزء صغير من الإمبراطوريات المحطمة هو دبلوماسي يُدعى جوزيف كوربل (والد مادلين أولبرايت)، وُلد في مملكة «بوهيميا»، وهي جزء من الإمبراطورية النمساوية المجرية، وعاش في مدينة براغ الرائعة. بعد تفكك الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى، أصبحت براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا. استنشقت ألمانيا النازية البلاد في عام 1939، جعلها الاتحاد السوفييتي فرعاً في عام 1948.
كان «كوربل» لا يزال في الثلاثينيات من عمره، وكان من «بوهيميا» وتشيكياً ومنفياً من الرايخ. فهل أصبح خادماً سوفييتياً؟ لا. باستخدام علاقاته مع الدبلوماسيين البريطانيين والأميركيين، هرب من براغ للمرة الأخيرة وتم نقله إلى دنفر مع زوجته وأطفاله – ومن بينهم مادلين، ابنته، التي ترأست بعد ذلك وزارة الخارجية الأميركية.
أصبح اللاجئ «كوربل» والد مادلين أميركياً شديد الوطنية من جميع النواحي – باستثناء أنه كان يدرك وجود الماضي، وكان يعرفه بشكل عميق لأنه عاشه. علّمه ماضيه أن العالمَ من دون نظام هو عالم غير مستقر. وعالم غير مستقر يعني أنه يتطلب وجود نظام. وإذا لم يقم المحبون للحرية بتأسيس النظام والدفاع عنه، فسيكون الطغاة سعداء للغاية للقيام بهذا الدور.
وهذا ما سيقوم به القيصر المرتقب، فلاديمير بوتين، بهجومه على أوكرانيا. إنه يحاول تجميع إمبراطورية روسية جديدة من أجزاء ممزقة من الماضي، وفي مكان ما على قائمة أمنياته هناك بالتأكيد كلمة «براغ».
كانت مادلين كوربل أولبرايت تشبه والدها تماماً لدرجة أنها قالت إن تجربتها التكوينية كخبيرة في السياسة الخارجية كانت حدثاً وقع عندما كانت بالكاد تستطيع المشي. وقالت ذات مرة: «طريقة تفكيري هي ميونيخ»، في حين أن طريقة تفكير «معظم جيلي هي فيتنام». كانت تعني بقولها «ميونيخ» استسلام رئيس الوزراء البريطاني، نيفيل تشامبرلين، عام 1938 لمطلب هتلر بالحصول على أجزاء من بوهيميا السابقة. استمر هتلر في المضي قدماً، وأرسل الدبابات إلى براغ والمزيد من الدبابات إلى بولندا وشن حرباً عالمية أخرى، والتي كانت أكثر سوءاً.
أن يكون لديك عقلية فيتنام – والتي يمكن استبدالها اليوم بـ «أفغانستان» – يعني القول بأن الولايات المتحدة لا يجب أن تكون المسؤولة عن حفظ النظام في العالم، لأن حماة النظام يرتكبون أخطاء. أما أن يكون لديك عقلية ميونيخ – والتي يمكن استبدالها اليوم بـ «أوكرانيا» – يعني أن المتقدمين الآخرين لوظيفة الحفاظ على النظام من المرجح أن يكونوا أسوأ.
والصدفة الغريبة هي أن تأثير «كوربل» امتد إلى ما هو أبعد من تأثير ابنته الرائعة والساحرة. فقد أصبح أستاذاً للعلاقات الدولية في جامعة دنفر، حيث كتب بشكل رسمي عن تحطم الإمبراطوريات، ولا سيما الصراع حول كشمير بعد تقسيم الهند البريطانية السابقة عام 1947 لإقامة دولة باكستان.
التحقت ابنة مدير جامعة دنفر، جون رايس، بمدرسة الموسيقى. لكن عازفة البيانو كوندوليزا رايس وجدت مساراً وظيفياً جديداً عندما تلقت درساً من كوربل. بعد حصولها على درجة الدكتوراه في عام 1981 من كلية الدراسات الدولية التي أسسها كوربل (سميت الكلية باسمه بعد وفاته في عام 2008)، برزت «رايس» بين مفكري السياسة الخارجية «الجمهوريين» مثلما ارتقت أولبرايت بين «الديمقراطيين». وهكذا، فإن المرأة الثانية التي عملت كوزيرة للخارجية كانت غارقة في نفس الشعور بأن عملية ترتيب عالم ما بعد الإمبراطورية لم تنته بعد.
يمكن أن تسير العملية بشكل خاطئ على نحو كارثي. لكن لا يمكن تفاديها، لأن الماضي لم يمت. سيكون من الأفضل للولايات المتحدة، وللعالم، أن تقف قوى الحرية غير الكاملة بثبات ضد البديل الأسوأ من الفاشية.