الرئيسية / مقالات رأي / تونس والواقع العالمي الجديد

تونس والواقع العالمي الجديد

بقلم: أسامة رمضاني  – النهار العربي

الشرق اليوم – تؤشر الحرب في أوكرانيا إلى تطور في العلاقات الدولية، من شأنه أن يطرح تساؤلات عميقة حول السياسات التي ينبغي أن تنتهجها بلاد صغيرة مثل تونس، كانت حتى الآن قد بنت مقارباتها الخارجية على أساس الحفاظ على توازنات هشة، تجنّبها التورط في الصراعات وتمكنها من جني ثمار الانخراط في مسارات العولمة.

تهاوت التصورات بخصوص العلاقات الدولية، ومعها الكثير من القناعات السابقة، ومن بينها القناعة بأن المجموعة الدولية تسعى قبل كل شيء إلى وضع أسس منظومات رأسمالية معولمة، هدفها الازدهار والتقدم المشترك لكل الدول، بعيداً من الصراعات التي صبغت تاريخ البشرية القرون الماضية.

يقول داني رودريك، أستاذ الاقتصاد العالمي في جامعة هارفارد الأميركية، إن حرب أوكرانيا، والصراع الأوسع الذي أجّجته بين روسيا والغرب، قد يكونان أسقطا آخر الأوهام المتعلقة ببناء العلاقات الدولية على أساس “نظام ليبرالي معولم”، ينصهر فيه الجميع من شرق وغرب في البحث عن الربح الاقتصادي، بعيداً من الصراعات والحروب.

ما أظهرته حرب أوكرانيا هو أن الحوادث الكبرى في العالم تحركها أيضاً اعتبارات “الأمن القومي” والصراعات المصلحية للقوى العظمى، حتى إن أدت تلك الاعتبارات إلى تقويض مقومات الاقتصاد المعولم.

في إطار هذا الصراع، يسعى الغرب إلى احتواء روسيا والصين خوفاً مما قد تشكله هاتان القوتان من تهديد عسكري، إضافة إلى التحديات الاقتصادية والتكنولوجية التي قد تمثلانها. وفي الوقت نفسه تسعى روسيا والصين إلى حشد طاقاتهما استعداداً لهذه المواجهة.

الرأي العام في تونس، مثله في ذلك مثل قطاعات واسعة من الجمهور الواسع في بقية المنطقة العربية، (ومعظم الدول الموجودة خارج بوتقة المعسكر الغربي)، تساوره شكوك في مصداقية السردية التي يسوّقها الغرب لتبرير محاولته حشد المساندة الشعبية له ضد روسيا. ولا أحد في تونس تقريباً، حتى من بين المدافعين عن الشرعية الدولية والمنددين بالغزو الروسي، يعتقد أن لتونس ناقة أو جملاً في الصراع الحالي. وإن كانت هشاشة الوضع الاقتصادي في تونس قد تغري الدول الكبرى لدفعها نحو موقف آخر.

منذ نهاية العقد الأول للقرن الماضي، فقد نموذج “النظام الليبرالي المعولم” بريقه. كان فكرة جذابة تتبناها قطاعات من الطبقة السياسية والاقتصادية، ترى الخلاص في الانصهار ضمن تيار العولمة، وذلك كمدخل لنماء البلاد وازدهارها، ومن ثمة الالتحاق بكوكبة البلدان المتقدمة.

اتضح للجميع أن الأطروحة النظرية التي روّجت لها المؤسسات المالية الدولية، والمنتديات الاقتصادية المتفرعة منها، والمدارس الأكاديمية القريبة منها، لا علاقة وثيقة لها بالواقع.

أكيد أن مناطق الخلل كانت كثيرة على صعيد الحوكمة في تونس ذاتها. أخطاء الساسة جعلت من الأرقام والمؤشرات المطمئنة مجرد سراب. و غياب الرؤية الصحيحة قلل من خطورة الانعكاسات المحتملة لانعدام التوازن بين الجهات والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للأفراد، ولكنه لم يعالجها، إلى حين حصول الانهيار سنة 2010.

تبدد “الحلم النيوليبرالي” بعدها ولم يعوضه منوال تنمية جديد، وذلك لغياب العزيمة السياسية وقلة الإمكانات في تونس.

وبقيت الشراكات مع الخارج محدودة في التشجيع على “الانتقال الديموقراطي”، وتوفير جرعات من المسكنات المالية والاقتصادية لحكومات عجزت عن معالجة أزماتها الهيكلية.

وفي ظل توسع رقعة الفقر والبطالة واهتراء منظومات التعليم والصحة العمومية في تونس، أصبحت الأصوات التي تدعو إلى مزيد انسحاب الدولة من الاقتصاد والمجتمع، لا تجد من يصغي إليها.

بل إن الخوف اليوم هو من انسحاب الدولة وتنامي دور القطاع الخاص على حساب المؤسسات الحكومية، من بين العوامل التي تزيد في توتر العلاقات بين السلطة والنقابات، على خلفية التفاوض مع صندوق النقد الدولي.                           

تداعيات حرب أوكرانيا على الصعيد الاقتصادي من آخر المستجدات التي تنسف ما كان بشّر به دعاة العولمة، من أن ترابط اقتصاديات البلدان هو خير ضمان لانحسار نسب الفقر في العالم. بل إن الحرب فتحت لأول مرة باب الخوف واسعاً من استشراء الجوع، وذلك بعدما ظنت البشرية أنه ظاهرة عفّى عليها الزمن.

وفاقمت التساؤلات الأخلاقية والاقتصادية بعد جائحة كورونا من زعزعة مسوغات العولمة. لم تصمد اقتصاديات البلدان الصغيرة المرتبطة بالخارج، بعدما تسببت الجائحة بتعطيل شبكات التزود التجارية وتقليص أنشطة السياحة والاستثمار.

في الوقت نفسه، أزاحت الجائحة الكثير من الأوهام بخصوص الاعتبارات الأخلاقية التي تميز العلاقات الدولية حتى زمن الأزمات الصحية القاهرة.

مثلما كانت حال معظم البلدان المتوسطة والضعيفة الدخل، عاشت تونس بعد 2019 تجربة محبطة في محاولة التزود باللقاحات ومقاومة آثار الجائحة. وأظهرت سلوكيات الدول المصنعة واقع العالم على حقيقته: ترابط وتضامن مشروط بتلبية مصالح القوى الكبرى أولاً. فقد أصرّت البلدان المتقدمة على الاستئثار بالأمصال وبراءات الاختراع لنفسها، في انتظار أن يكون لها فائض يسمح لها بمساعدة الآخرين. لم يكن التحرك اللاحق لمنظمة الصحة العالمية وللأوروبيين والأميركيين كافياً ليغطي على الشرخ الواسع الذي برز بين الغرب المتقدم و”الآخرين”.

في ظل التطورات المتسارعة على الساحة الإقليمية والدولية، لا شيء يوحي اليوم بأن زمن الصراعات على السيطرة والنفوذ قد انقضى أو هو سينقضي قريباً.

وحتى وإن كان الأمن القومي للدول سيكون من بين الأولويات القادمة في عالم مضطرب، فإن من الخطأ أن تعتقد بلاد مثل تونس أن مزيداً الإنفاق على التسلح والعسكرة على حساب التنمية الاقتصادية سيكون الحل. ولكن قادتها مضطرون ليضعوا نصب أعينهم أن الصراعات العالمية قد لا تترك مجالاً للقوى الكبرى للاهتمام بمشاغل الدول الصغيرة المرتبطة بالإرهاب والأنشطة الأخرى المزعزعة للاستقرار. 

ومن المؤكد أن بلاداً كتونس لا مفر لها من أن تواصل سلوكها الحيادي الحذر تجاه الصراعات، حتى إن اشتدت الضغوط عليها من أجل دفعها إلى الاصطفاف وراء الأحلاف.

ومن المحتمل أن تفتح حرب أوكرانيا الباب أمام ضغوط للاصطفاف، ليس فقط سياسياً بل أيضاً اقتصادياً وراء معسكر دون آخر. 

وستعود إلى أهلها دون غيرهم مهمة استنباط الصيغ الاقتصادية والاجتماعية التي تتناسب وحاجيات البلاد التنموية وإمكاناتها الفعلية. وسيكون من دور السلطات أن تتوقع كل السيناريوات الممكنة، مهما كانت بعيدة الاحتمال، في عالم متحرك.

في الواقع، لم تكن تونس في حاجة لحرب أوكرانيا ودروس أزمة كورونا لتتعلم أن حكومات البلاد هي المسؤولة الأولى عن أخطائها وأزماتها، كما هي مسؤولة عن تحقيق الآمال العالقة لأغلبية شعبها.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …