بقلم: خيرالله خيرالله – النهار العربي
الشرق اليوم – يظلّ أسوأ ما في الأداء الأميركي تجاه ما يجري في أوكرانيا، ذلك الجهل في شخصيّة فلاديمير بوتين وطبيعة النظام السياسي في روسيا، إضافة، في طبيعة الحال، إلى الجهل في أهمّية الشعور الوطني الروسي الذي يمثّل حالة مرضية أكثر من أي شيء آخر. إنّها حالة أحسنَ الرئيس الروسي الاستفادة منها واستغلالها لمصلحته إلى حدّ بعيد. جعله ذلك لا يسأل عن الخسائر التي لحقت بالقوات الروسيّة التي تولّت عملية اجتياح أوكرانيا بهدف إلغائها من الوجود.
هناك ما لا يقلّ عن عشرة آلاف قتيل في صفوف الجيش الروسي، استناداً إلى المستشار الألماني أولاف شولتس. لا يمكن أن يصدر هذا الرقم عن شخص في مستوى المستشار الألماني في إطار الحرب الإعلامية على الرئيس الروسي، من دون أن يكون مستنداً إلى معطيات حقيقيّة. لا يمكن للشخصيّة السياسيّة الأهم في بلد مثل ألمانيا ارتكاب خطأ في تقدير الخسائر الروسيّة.
لعلّ النقطة الأهمّ التي تجاهلتها الإدارة الأميركية، هي الاعتقاد أنّ العقوبات يمكن أن تؤثر في بوتين وأنّ رجال الأعمال الذين يحيطون به، والذين لديهم مصالح في مختلف أنحاء العالم، سيضغطون على الرئيس الروسي. اعتقد الغرب أن ضغطاً داخلياً سيمارس على الرئيس الروسي بسبب المصالح التي ارتبط بها عدد من رجال الأعمال القريبين منه والتي جعلت على سبيل المثال، وليس الحصر، أحد القريبين من الكرملين يستحوذ على نادي تشلسي لكرة القدم وهو من بين النوادي العريقة في لندن بالذات وعلى صعيد إنكلترا وأوروبا.
ليس سرّاً أن صاحب نادي تشلسي رومان ابراموفيتش ينتمي إلى الحلقة الضيّقة المحيطة بالرئيس الروسي والمرتبطة به مباشرة. لكنّ العقوبات على ابراموفيتش الذي يمتلك مليارات الدولارات لن تقدّم ولن تؤخّر على صعيد الوضع الروسي أو على صعيد اتخاذ القرار السياسي. لن تجعل مثل هذه العقوبات، على ابراموفيتش وعلى عشرات من أصحاب المليارات مثله، الرئيس الروسي يقدم على أيّ خطوة تراجعيّة. الرجل مصمّم على إلغاء أوكرانيا من الوجود، أو تقسيمها نهائيّاً. بات مصيره السياسي مرتبطاً بمشروعه الأوكراني. من هذا المنطلق، يعتبر فلاديمير بوتين رجلاً خطيراً، إلى حدّ كبير، في ضوء عدم قدرته على التراجع. مثل هذا التراجع سينهيه سياسيّاً. إنّه يعتقد في نهاية المطاف أنّ التهديد بالسلاح النووي ووضعه على الطاولة يسمح له بخوض كلّ المغامرات التي في متناول يده.
لم يطرح المسؤولون في الإدارة الأميركية سؤالاً في غاية البساطة: لماذا لا تأثير يذكر لرجال الأعمال على بوتين؟ الجواب عن هذا السؤال أن بوتين يستطيع الضغط على هؤلاء الذين ليس في استطاعتهم امتلاك أي هامش للمناورة في مجال التعاطي معه. لا يهمّه هل زادت ثروات المحيطين به أم لا. كلّ ما يهمّه أنّه يستطيع التحكم برقاب رجال الأعمال وأن يثبت لهم يومياً انّه مصدر ثرواتهم داخل روسيا وخارجها. السلطة بالنسبة إليه تتقدّم على المال.
سبق في الماضي لرجال أعمال أن تمرّدوا على بوتين من منطلق أنّ ثروتهم تحميهم. تولّى تحطيم كلّ من تمرّد عليه. سجن أحد هؤلاء عشر سنوات قبل أن يسمح له بالذهاب إلى منفاه الاختياري. السلطة، بالنسبة إليه مصدر المال والبقيّة تفاصيل لا يتوقّف عندها.
لم تدرس الإدارات الأميركية المتلاحقة شخصيّة بوتين جيّداً. لم تعترض على تدميره غروزني وإخضاع الشيشان ولا على تدجين جورجيا ولا على الطريقة التي استعاد بها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا ولا على دخوله طرفاً مباشراً في الحرب، التي يخوضها النظام الاقلّوي في سوريا، بمشاركة إيران، على الشعب السوري ابتداء من أيلول (سبتمبر) 2015.
استفاقت إدارة جو بايدن على فلاديمير بوتين يدمّر المدن الأوكرانيّة الواحدة تلو الأخرى. لم يكن ما يدعو إلى مثل هذا المفاجأة. من يدرس تاريخ بوتين منذ كان ضابطاً في الاستخبارات السوفياتيّة في مدينة درسدن الألمانية، لا يتوقع من هذا الرجل سوى الذهاب بعيداً في مغامرته الأوكرانيّة. يعود ذلك إلى أنّه لم يشفَ بعد من تأثيرات سقوط جدار برلين في خريف العام 1989 وخسارة الاتحاد السوفياتي الحرب الباردة ثمّ انهياره. يُفترض في كلّ عاقل التساؤل إلى المدى الذي يمكن لفلاديمير بوتين الذهاب إليه في حال وجد نفسه في الزاوية ووجد أن مستقبله السياسي صار في مهبّ الريح.
من هذا المنطلق، يدعو المنطق إلى اعتماد الحكمة قبل أيّ شيء آخر والتساؤل كيف يمكن احتواء فلاديمير بوتين والحؤول دون إقدامه على خطوة ذات طابع انتحاري بدل الذهاب إلى استرضاء إيران وفنزويلا لتعويض أزمة النقص في النفط والغاز في العالم.
وضع بوتين العالم كلّه في موقف صعب لم يسبق له أن واجه مثيلاً له منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. لا شكّ في أنّ إدارة جو بايدن، والرئيس الأميركي نفسه، ليسا في مستوى الحدث الذي ولد من رحم الحرب الأوكرانيّة، وهي حرب تسبب بها شخص أسير عقد كثيرة. من بين العقد وهمٌ اسمه عظمة الأمّة الروسيّة ومكانها في العالم. لا ينفع مع شخص من هذا النوع وصفه بـ”الجزار” أو “مجرم حرب”. هذا “الجزار” و”مجرم الحرب” يمتلك، في نهاية المطاف عقلاً انتحارياً كما يمتلك آلاف الصواريخ والقنابل النوويّة التي يمكن أن يفني بها العالم… حتّى لو كان الثمن فناء روسيا أيضاً!