بقلم: الحبيب الأسود – العرب اللندنية
الشرق اليوم – اضطرت منصة “حكومتنا” الليبية إلى حجب الصوت عن رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة وهو يؤذن لصلاة الجمعة من جامع بورقيبة بطرابلس الجمعة الماضي، ومع ذلك تسرّب التسجيل إلى العموم. وكان لافتا أن الدبيبة أخطأ في أداء نص الأذان مما أثار جدلا واسعا وتعليقات ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي. لقد وضع الرجل نفسه في موقف محرج فعلا، فلا صوته يصلح لرفع الأذان، ولا أداؤه أثبت أنه معتاد على تلك المهمة، ولا حضوره كشف عن موهبة كانت غائبة عن جماهير الشعب الليبي.
أخذ الدبيبة الميكروفون وخاطب المصلين، بكلمات الهدف منها استجداء الدعم والموالاة، حيث استدعى بإعداد مسبق مع وزارتي العدل والداخلية والهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، ما سمي بقضية الاجتراء على الإسلام والدعوة إلى الإلحاد، ليخاطب عموم الشعب بلهجة من يعتبر نفسه وصيا على عقائد وقناعات وضمائر الناس، ومن يتجه إلى نصب محاكم تفتيش للتحقيق مع مواطنيه حول ميولهم الدينية، فقط لنيل نقاط إضافية في سجل شعبيته التي يعمل بكل الوسائل والوسائط على تضخيمها بما يتيح له فرصة الاستمرار في الحكم لأشهر أو سنوات أخرى من خارج شرعية مجلس النواب.
بعد ساعات من حادثة رفع الأذان، تم نشر شريط فيديو لواحد من القيادات العسكرية في أركان وزارة الدفاع، التي يديرها الدبيبة إلى جانب رئاسة الحكومة، وهو يوجه تعليماته بصرف رواتب شهر مارس لعناصر وأفراد القوات والجماعات المسلحة بالمنطقة الغربية، وأغلبهم من الميليشيات التي تتحكم في مفاصل السلطة بالعاصمة طرابلس، ودون محاولة لتخمين دوافع نشر ذلك الفيديو، كان واضحا أن الهدف هو توجيه رسالة إلى قيادة ومنتسبي الجيش الوطني الذي يبسط نفوذه على شرق وجنوب البلاد، مفادها أن داعمي الدبيبة يقبضون رواتبهم في مواعيدها، بينما من يقودهم حفتر ويساندون باشاغا ويحرسون منابع الثروة لا يزالون ينتظرون صرف رواتبهم منذ أربعة أشهر، وهناك من الضباط والعسكريين من لا يجد ثمن الحليب لأطفاله أو العلاج لوالديه.
تلك التصرفات ليست بمعزل عن المشهد العام لتحركات الدبيبة منذ أن وصل إلى الحكم، وبات هدفه أن يقيم فيه إلى ما لانهاية، حاملا في داخله تصورات التاجر الطموح لمفاهيم الدولة والسلطة بدعم أصحاب المصلحة من استمراريته، وبغطاء نسجته أخيلة وأقلام وأصوات جوقة بروباغندا محترفة تضع يدها على إمكانيات ضخمة مخصصة للإبقاء على الرجل في مكتبه بطريق السكة كواجهة لتحالف القوى الداخلية والخارجية المستفيدة من بقاء الوضع على ما هو عليه. فما دام النفط يباع في الأسواق الدولية والإيرادات تصل إلى مصرف ليبيا المركزي وعمليات الصرف تتم بشكل يومي تحت بنود مفتوحة للاجتهادات، وما دامت سياسة المساومات دائمة ودبلوماسية الصفقات قائمة، فإن أي اجتهادات للوصول بالبلاد إلى الحل النهائي بتوحيد المؤسسة العسكرية وتحقيق المصالحة الوطنية تبدو غير ذات أهمية.
أثبت الدبيبة أنه شعبوي من الطراز الأول، وأنه يلعب على كل الحبال. بدأ بالشباب من خلال منح الزواج، ثم اتجه إلى الفقراء والأرامل والمطلقات والمتزوجات من أجانب والمتقاعدين والمسنين و”البدون”، أي من لا يمتلكون الجنسية الليبية، وحاول أن يستفيد من أصوات كل الفئات في الانتخابات التي ترشح لها، ولم تنتظم في موعدها. لقد صرف أكثر من 80 مليار دينار ليبي دون دراسة مسبقة لتأثير ذلك على الواقع المادي والاقتصادي للبلاد، فكانت النتيجة ارتفاع نسبة التضخم ومستويات الأسعار وفقدان السلع التموينية الأساسية واتساع قاعدة الفقر والفقراء مع المزيد من تغوّل الفساد الذي بات أساسا لمنظومة الحكم بتزكية من القوى الأجنبية المستفيدة من ظاهرة الإهدار العام.
مثل كل الشعبويين، ينفذ الدبيبة كل المقترحات المتفق عليها من قبل الفرق المتخصصة التي تعمل لفائدة استمراره في السلطة، ويبدو عندما يتحدث بجدية مصطنعة وكأنه يضحك في داخله ممن يصدقه، ثم يتبنى لاحقا الخيارات التي يطرحها فتصبح جزءا من عقيدته. وما بدأ هزلا يتحول حتما إلى جدّ، لاسيما تلك الوعود الصاخبة التي لا معنى لها، وفق مقاييس القدرة على تنفيذها، سوى أنها أداة للتجييش والتعبئة العامة.
يعتمد الدبيبة على خدعة تأليه الشعب، أو هو يعد بحل كل المشاكل والأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ويقدم نفسه على أنه الزعيم الذي جاء ليخرج ليبيا وشعبها من الظلمات إلى النور، وليكسب التعاطف الشعبي، فإنه يحتاج إلى الظهور في صورة الملاحق بسهام المتآمرين عليه، وعلى الشعب طبعا، وقد وجه في هذا السياق الكثير من الاتهامات إلى مجلس النواب والجيش، وأحيانا يتظاهر بالحميّة الوطنية فيتهم دولا أجنبية دون أن يسميها بالعمل على تقسيم ليبيا أو الاستيلاء على أموالها المجمدة، وفي حالات كثيرة يتجه إلى تلك الدول طلبا للمساعدة وليعبر لها عن ولائه التام واستعداده لعقد ما تراه صالحا من الصفقات. حتى الدول العربية التي زارها كانت تعرف أنه يمارس شعبوية مقيتة لخدمة مصالحه الشخصية والأسرية والفئوية في سياق مراكز النفوذ التي دفعت به إلى المنصب.
يحتاج الدبيبة إلى تأجيج الصراعات الوهمية، كأن يتهم مثلا “العسكر والإخوان” بالتآمر عليه، أو يحذر من محترفي الفساد أو ناشري الإلحاد في البلاد، وفي المقابل يتجه إلى تقديم الشعب على أنه كتلة صلبة من المثالية المستهدفة من قبل عناصر الشر الراغبين في الإطاحة به من كرسي الحكم. وهو يعرف ما يريد، ولديه فرق محترفة في هذا المجال، ومستشارون أجانب متخصصون في توجيه الرأي العام.
جاء الدبيبة إلى الحكم بعد عقود شعر فيها الشعب أنه محروم من ثروته، وبعد سنوات عجاف فقد فيها الليبيون الأمل، ولذلك اتجه لملء الفراغات وترميم التصدعات النفسية للشارع بأن يُسمع مواطنيه ما يرغبون في سماعه، مع توظيف جيوش إلكترونية متخصصة في تلميع الصورة وتقديم المهندس المتحدر من أسرة تحتكم على ثروة طائلة، على أنه الشبعان الذي سيشبع الفقراء، والمتعفف الذي سيحفظ كرامة مواطنيه.
وبخروجه إلى الشارع بات يقترح على الرأي العام صورة القائد المتواضع والزعيم المؤمن والثائر المجسد لشعارات فبراير، وذلك من خلال جولاته في الأسواق والشوارع والساحات وجلوسه في المقاهي واحتضانه للمسنين والأطفال، وتركيزه على استقبال الرياضيين والاهتمام بالنوادي ذات الرصيد الجماهيري الواسع، في حين لا يهتم مثلا بالمفكرين والأدباء لأن تأثيرهم في الشارع لا يساوي تأثير ناشطي فيسبوك وتيك توك ممن بات يصر على كسب مودتهم.
خلال الفترة الماضية ارتدى الدبيبة جلباب الثائر والميليشياوي والزعيم الجهوي، وهو يقدم نفسه على أنه حامي حمى طرابلس والمنطقة الغربية، وهو من يستطيع مواجهة الجيش. ولتكريس نزعته الشعبوية احتاج إلى هدف سياسي مهم، فكان اختياره لموضوع تنظيم الانتخابات قريبا، وتقديم نفسه على أنه المؤتمن على إرادة الليبيين، والساعي إلى تحقيق رغبة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، رغم أنه كان من الأسباب الرئيسة في تأجيل انتخابات ديسمبر الماضي؛ سواء بترشحه للسباق ناكثا تعهده لملتقى الحوار السياسي، أو بالممارسات الجبرية والضغوط التي سلطها على المفوضية العليا والقضاء، وكذلك بالمساومات التي قادها من تحت الطاولة مع نافذين دوليين.
قبل أيام، استمع محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير إلى نصائح من مسؤولين في واشنطن بعدم التورط أكثر في شعبوية الدبيبة الذي يتصرف في المال العام خارج القانون والشرعية والهيكلة الإدارية، ويتعامل مع الاقتصاد بفوضوية لم تعرفها البلاد حتى في أحلك فتراتها، فما يهم رئيس الحكومة المنتهية ولايتها هو أن يستمر في الحكم، مهما كان الثمن، وأن يكسب المزيد من الشعبية استعدادا إما لانتخابات قادمة أو لمواجهة من قد يحاولون إجباره على تسليم السلطة، ويرى البعض أن الدبيبة يرغب في إشعال مواجهة تضمن له الاستمرار في الحكم من منطلق زعامة جهوية يدعيها، بينما أصل الأشياء تطلعات شخصية بغطاء فئوي لجماعة استسهلت العبث بمقدرات البلاد، وتعتقد أنها قادرة على الاستمرار في ذلك إلى ما لا نهاية.