بقلم: علي قاسم – العرب اللندنية
الشرق اليوم – دخول روسيا إلى أوكرانيا ليس مجرد مغامرة عسكرية من رجل يحلم بتشكيل إمبراطورية. إنه صراع جيوسياسي واقتصادي بالدرجة الأولى لا مكان فيه للأيديولوجيا، بدأته الولايات المتحدة.
ما يحدث هو تشكيل لعالم جديد يعود بنا إلى ما قبل انهيار جدار برلين، ليس على المستوى الأيديولوجي بل الاقتصادي؛ روسيا لن تعود حمراء كما كانت، والصين التي قطفت ثمار الانفتاح الاقتصادي على مدى عشرين عاما، هي أقرب اليوم إلى الرأسمالية.
في عام 1989 انهار جدار برلين ممهدا الطريق لانهيار ألمانيا الشرقية ومعها مجمل حلف وارسو سابقا. وكان الأمل أن ينهي انهيار الجدار الحاجز النفسي الذي خلّفه الصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب. خاصة أن هذه الفترة تزامنت أيضا مع تطور التكنولوجيا الرقمية وتوجت بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001.
خلال عشرين عاما، حققت الصين نموا سريعا وأصبحت أكبر دولة مُصدّرة في العالم، وثاني أكبر دولة مستوردة، وثاني أكبر دولة جاذبة للاستثمار. وسارعت المئات من الشركات الأميركية لنقل أنشطتها إليها للتمتع بميزة انخفاض كلفة العمالة.
ولكن، شهر العسل لم يدم طويلا، على الأقل بالنسبة إلى الجانب الأميركي الذي لم يحقق الفوائد الاقتصادية المتوقعة من انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية.
وبحسب راي براون، الذي عمل محللا اقتصاديا للحكومة الأميركية، فإن الصين لم تكن لديها أية نية للالتزام بالقواعد الدولية، بل انضمت للمنظمة بهدف أن “تغيرها لا أن تتغير هي”.
الانفتاح على الصين كان من نتائجه خسارة المزيد من الوظائف وإغلاق المصانع في الولايات المتحدة، فيما عرف بـ”الصدمة الصينية”. وتحملت ولايات أميركية، عرفت باسم ولايات “حزام الصدأ”، العبء الأكبر في هذه الصدمة، بعد أن هجرت مئات المعامل فيها بفعل العولمة والمنافسة مع الصين.
الموقف من العلاقات مع بكين بدأ في التبدل أواخر عام 2015؛ الذين تحدثوا عن فضائل العولمة بدأوا بالتحذير من سرعة الصين باللحاق بالولايات المتحدة، وشكل البنتاغون فريقا بقيادة الجنرال روبرت سبالدينغ لصياغة استراتيجية جديدة للتعامل مع صعود الصين.
ومنذ تقاعده من منصبه قام سبالدينغ بتأليف كتاب عنوانه “حرب السرية: كيف سيطرت الصين بينما النخبة الأميركية نائمة”.
واعتبر سبالدينغ أن التهديد الصيني “أكبر من التهديد السوفييتي بكثير”.
وتبلور عمل الفريق الذي قاده في وثيقة حول استراتيجية الأمن القومي اعتبرت مرجعا اعتبر تحولا عميقا في الموقف الأميركي من الصين.
لم ينس دونالد ترامب أصوات الأميركيين في “ولايات الصدأ” التي كان لها الفضل الأكبر في وصوله إلى البيت الأبيض، واستغل انتشار فايروس كوفيد – 19، الذي انطلق من مدينة ووهان الصينية، ليوجه اللوم لحكومة بكين ويتهمها بعدم الشفافية. كما أثار غضب بكين من خلال الإشارة مرارا إلى الفايروس باسم “الفايروس الصيني”.
واستغل ترامب اتهامات موجهة لحكومة بكين بتشجيع الشركات الصينية على سرقة الملكية الفكرية ليطلق حربه التجارية عليها في العام 2018.
وكانت شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة هواوي هدفا لحملة متصاعدة لعزلها دوليا، إذ اتهمتها بسرقة أسرار تجارية أميركية وحذر من أن بكين قد تستخدم معداتها للتجسس على الاتصالات العالمية.
وبضغط من إدارته ألغت وزارة الخارجية الأميركية الوضع التجاري الخاص الذي كانت تتمتع به هونغ كونغ كمركز مالي عالمي.
ووجهت إدارة ترامب انتقادات مباشرة للصين واتهمتها باعتقال أكثر من مليون مسلم من الأويغور.
الخلاف بين بكين وواشنطن امتد أيضا ليشمل تايوان الديمقراطية، ولم يخف مسؤولون في واشنطن مخاوفهم من السرعة التي بنت فيها الصين العديد من الجزر الصناعية في المنطقة وجهّزتها بالأسلحة ورأوا في ذلك تحدّيا للقوانين الدولية.
وكانت الصين واضحة في التعبير عن طموحها لقيادة العالم في مجال تكنولوجيا الروبوتات والذكاء الاصطناعي. وهي الآن عصب السيادة العسكرية الأميركية التي لم تعد تعتمد على الحجم الضخم للجيش، بل على أنظمة الأسلحة المتقدمة تكنولوجيا.
وترى وزارة الدفاع الأميركية أن التعامل مع قوة الصين الصاعدة هدف رئيسي في العقود المقبلة. لذلك لا يتوقع حدوث أي تغيّر في موقف واشنطن من الصين حتى مع تغير الإدارة في البيت الأبيض.
اليوم، وفي خضم الأزمة التي فجرتها الحرب الروسية – الأوكرانية، تدور تساؤلات حول موقف بكين من كل ما يجرى، فرغم علاقتها الوثيقة مع موسكو إلا أنها لم تبد رسميا أي انحياز، بل اتخذت موقفا أقرب إلى الحياد ضمن ما اعتبره محللون “سياسة مسك العصا من منتصفها” مراعاة لتحالفاتها ومصالحها.
وذكرت تقارير استخباراتية غربية أن الصين كانت على علم مسبق بالعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، وطلبت من كبار المسؤولين الروس الانتظار حتى انتهاء أولمبياد بكين قبل بدء الهجمات.
وكشفت صحيفة “نيويورك تايمز” أن هناك مكاسب استراتيجية واسعة لبكين من الحرب الحالية، أولها احتمال انتقال عدوى موسكو إلى بكين في تعاطيها مع تايوان، أي شن حرب لاستعادتها، وكذلك إدراك الصين أنها ستكون هدفا للحلف الأطلسي مستقبلا مثلما هو الحال مع روسيا في الوقت الراهن.
لا شك أن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة هي في وضعها الأسوأ منذ عدة سنوات. ويبدو أنها تتجه نحو المزيد من التدهور. وهذا ما عبّر عنه مقال نشرته مجلة فورين أفيرز الأميركية شارك في كتابته مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان مع كبير مستشاري الرئيس الأميركي للشؤون الآسيوية كورت كامبيل، جاء فيه أن “حقبة التواصل مع الصين وصلت إلى نهايتها”.
الجدل السياسي في دوائر صنع القرار الأميركي لم يعد حول مواجهة الصين والتغلب عليها، بل يدور حول أفضل السبل لتحقيق ذلك.
الأمر المؤكد الوحيد في الصراع الدائر أن أجواء الثقة والانفتاح التي سادت العالم بعد سقوط جدار برلين لم تعد قائمة، وهذا ما يفسر التحالفات الجديدة التي بدأت تتشكل بين الدول، ويفسر أيضا رغبة الإدارة الأميركية بالاحتفاظ بورقة إيران والجماعات المتطرفة التي تدعهما طهران، لتكون ورقة تستخدمها عند الضرورة. ومن هنا حرص الرئيس الأميركي على التوصل إلى اتفاق مع طهران، متجاهلا الاعتداءات المتكررة التي تشنها جماعة الحوثي المدعومة من إيران على أهداف مدنية في المملكة العربية السعودية.