بقلم: طلال صالح بنّان – صحيفة “عكاظ”
الشرق اليوم – يُقول المؤرخ العسكري الألماني كارل فون كلاوزفيتز (١٧٨٠ – ١٨٣١): الحربُ إنما هي امتدادٌ للسياسةِ، لكن بوسائلَ عنيفة. قبلَه قال الفيلسوف الصيني سون تزن (٥٥١ – ٤٩٦ ق.م) في كتابه فن الحرب: الحربُ قد لا تكون لها ضرورةٌ لو أمكنَ تحقيق أهدافها بوسائلَ أقلَ عنفاً (الدبلوماسية).
الحقيقةُ تبقى: أن كلاً من الحربِ والدبلوماسيةِ تأتيان في قمةِ أدوات السياسة الخارجية التي يمتلكها صانعو القرار في الدولة، لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، في بيئةٍ خارجيةٍ تتصفُ بقسوةِ الفوضى وميوعةِ الانضباط.
لكن اختيار أيٍ من هاتين الأداتين، لخدمة أهداف السياسة الخارجية على مسرح السياسة الدولية، يعتمد على تقدير صانعي السياسة الخارجية في مدى كفاءة أيٍ منهما وفاعليته في تحقيقِ الغرضَ من استخدامه. الأمرُ يحتاج إلى تحليل دقيق للربح والخسارة لكل بديلٍ منهما، بحيث يتم تحقيق الهدف منه بأقل تكلفة وأكبر عائد ممكنين. الحسبة هنا: مادية نفعية بامتياز، لا ينظر من متغيراتها أي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية. الغاية، هنا: خدمة مصالح الدولة ومدى حساسية نظرتها لأمنها.
الحربُ تاريخياً: لها إغراءات يصعب مقاومتها، طمعاً وراء نصرٍ سريع يعود بربح جزلٍ، دونَ اكتراثٍ عقلانيٍ بالعواقب، فتقعُ خطيئة الخطأ في الحسابات وسوء التقدير، وتكون الكارثة. الدبلوماسيةُ، في المقابل: أداةٌ ناعمةٌ تتصف بتواضع تكلفتها، وإمكانات نجاحها العالية، مع درجةٍ متقدمةٍ من اليقين بتوقعِ نتائجها. الحربُ يمكن تشبيهها بانفلات وحشٍ أو مجنونٍ من عقالِه، بينما الدبلوماسيةُ تصديرُ رموز وأدواتٍ ومؤسساتٍ أكثر عقلانية وخبرة للتعاملِ مع مشاكل تطرأ بين أطرافٍ دوليةٍ تحتاج إلى صبرٍ ومثابرةٍ وخبرةٍ ودراسةٍ وحكمةٍ للتعاملِ معها، بأقلِ تكلفةٍ ممكنةٍ وأكبر عائدٍ متوقع، مع استشرافِ مخرجٍ للأزمةِ في آخرِ النفقِ يومضُ عن بعد.
في الحربِ الدائرة اليوم على أرضِ أوكرانيا، غَلّبَ الروسُ إغراءَ الحربِ، حتى أنهم بالغوا في الاستهانة بقدرةِ الطرفِ الآخر على المقاومة، كما لم يُحْسِنوا تقديرَ جدية منافسيهم وخصومِهم التقليديين في الغرب، بتحذيراتهم للكرملين بأن عواقبَ الحربِ ستكون وخيمةً ومؤلمةً.
لو غُلِّبَ جنونُ الحربِ، وحيل دون تطوره لمستوياتٍ استراتيجيةٍ مهلكة للجميع، فإن الروس لن يتمكنوا من محو هوية أوكرانيا القومية واستقلالها، وحتى وحدة أراضيها. في المقابلِ: لو نجحَ الغربُ بدبلوماسِيَتِهِ ولم يجار الروسَ في الانجرار للحربِ، بغرضِ تحقيق هزيمةٍ عسكريةٍ لروسيا، فإن الغربَ لن يتمكن من إذلالِ روسيا، وفي الخلفية إمكانيات الردع الاستراتيجي، بكل احتمالاته اللاعقلانية.
الغربُ، إلى الآن نجح بدبلوماسيته في احتواء الحربِ ضمنَ مسرحِ عملياتها بجَعلِها محدودةً تكتيكياً، لكنه لن يتمكن من إطلاقِ رصاصة الرحمةِ الأخيرةِ لوقفِ الحرب، ببقائه بعيداً عن القتال، حتى لو أمِنَ جنونَ الحربِ أن يصلَ إلى مداه، بلجوء الروس للخيار النووي. الدبلوماسيةُ الغربيةُ لم تنجح في منعِ الحربِ، وتتعثر في محاولتِها وقفها. الأهمُ: أن الغربَ فقد فرصةَ الحربِ ليقترب أكثر من تخوم عرين الدب الروسي، بينما قرارُ الحربِ المتهورِ سيجعل الدب الروسي يلعق جراحه داخل عرينه المتجمد لفترةٍ طويلة، بعد الحرب.
بين جنون الحربِ وحكمةِ الدبلوماسية خيطٌ رفيع كثيراً ما يفشلُ الساسةُ في الحفاظ عليه ومقاومة مجازفة قطعِه، أو حتى محاولة تجاوزِه.