بقلم: يوسف بدر – النهار العربي
الشرق اليوم – منذ استيلاء حركة “طالبان” على الحكم في العاصمة الأفغانية كابول في 15 آب (أغسطس) 2021، وهي تحاول بشتى الطرق الحفاظ على استمرارية الوجود خشية التلاشي والانهيار. فالأمر لم يعد يتعلق بحمل السلاح؛ بل بتحمل مهام القيام بحكم دولة، وهو ما تعجز عن فعله حتى الآن.
تواجه الحركة الإسلامية عجزاً في توفير الأموال منذ تجميد أصول البنك المركزي الأفغاني في الخارج التي تبلغ نحو 7 مليارات دولار، وهو ما يشل “طالبان” ويجعلها عاجزة عن القيام بمهامها في إدارة الدولة، بما دفعها إلى استخدام نظام المقايضة في إدارة التعاملات اليومية، فقد دفعت لموظفيها القمح الذي حصلت عليه تبرعاً من الهند بدلاً من النقد.
الأفيون كالنفط
بين عامي 2015 و2020، تمت زراعة نحو 83% من أفيون العالم في أفغانستان، وهذا يعني أن احتكار إنتاج الأفيون بيد الأفغان، وهو الآن بيد “طالبان”. ورغم أن الحركة أعلنت عقب سيطرتها، تعهدها مكافحة إنتاج الأفيون، لكن الأمر كان مجرد “تكتيك” من أجل جذب المساعدات الدولية والإقليمية إلى أفغانستان، لمساعدتها على إيقاف زراعة الأفيون، وكذلك من أجل رفع أسعار الأفيون في الأسواق الخارجية، بما يرفع من عائدات الأفيون الأفغاني، ويحفز المزارعين على توسيع أراضيهم وإنتاجهم. الأمر أشبه بتجارة النفط وقلق الأسواق العالمية من العجز عن توفير المنتج.
وتكشف التقارير والإحصائيات زيف وعود الحركة الإسلامية، إذ من الصعب تصور أن الحركة ستتخلص من أهم مصادر تمويلها في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية وخشيتها من السقوط مرة أخرى، إذ يشير تقرير “مكتب الأمم المتحدة المعنى بالمخدرات والجريمة” (UNODC)، إلى أن عائدات تجارة الأفيون تتجاوز ملياري دولار سنوياً، وإلى أن زراعة الأفيون لا تزال أكبر نشاط اقتصادي غير قانوني في أفغانستان، وقد تزايدت المساحات المزروعة، بخاصة في المناطق الجنوبية من البلاد، بما في ذلك قندهار وهلمند، معقلا حركة “طالبان”.
الاقتراب شرقاً
يأتي تقارب “طالبان” مع القوى الشرقية في إطار لغة الابتزاز والتهديد، بخاصة أن الحركة لديها أزمة الاعتراف الرسمي بشرعيتها، والأزمة الاقتصادية لا تساعدها على الانتقال إلى مرحلة “التمكين” من الدولة الأفغانية بالكامل.
وتعبر عن هذا الاقتراب، الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير الخارجية الصيني وانغ يي، لكابول، قادماً من مشاركته في قمة منظمة التعاون الإسلامية في إسلام آباد، بما يظهر أن الصين تعطي أولوية للعلاقات مع أفغانستان، وتتجنب انتقاد حكامها الجدد، إذ لا تزال سفارتها تعمل في كابول، فمن مصلحة الصين وجود إدارة مستقرة ومتعاونة في كابول؛ تضمن الأمن لمصالحها الإقليمية.
هذا الأمر تدركه جيداً حركة “طالبان”، بخاصة أن بكين لديها مخاوف من أن تتخذ “حركة تركستان الشرقية الإسلامية” المعارضة من أفغانستان قاعدة لشن هجماتها على القوات الصينية بهدف إعلان استقلال دولة أيغورستان.
ولذلك نجد الصين تقدم الإغراءات للحركة الأفغانية، من خلال الوعود بربط أفغانستان بـ”ممر التجارة الصيني الباكستاني” الذي يرتبط بـ”مبادرة الحزام والطريق” لتعزيز التجارة من الصين وإليها. وفي المقابل، تقدم “طالبان” الضمانات للصين من أجل أن تستثمر في مجال التعدين، بخاصة أن أفغانستان تمتلك منجم “عينك”، ثاني أكبر مناجم النحاس في العالم، الأمر الذي يمكن أن يوفر المال لدعم الحركة في إدارة البلاد.
وتزامناً مع زيارة المسؤول الصيني، أيضاً، التقى المبعوث الخاص للرئيس الروسي زامير كابولوف، على رأس وفد من ممثلي وزارات الدفاع والداخلية والاقتصاد والصناعة والزراعة والطاقة، نائب رئيس الوزراء في حركة “طالبان” للشؤون الاقتصادية ملا عبد الغني برادر، ما يظهر أن روسيا لديها رغبة في استمرار حكومة “طالبان” ودعمها في شتى المجالات، بخاصة أن لديها مصلحة في استقرار الحكومة في أفغانستان، بما يخدم مصالحها التجارية وحركة الترانزيت عبر الأراضي الأفغانية نحو دول آسيا.
فرصة للاعتراف
من المقرر أن ينعقد المؤتمر الوزاري الثالث للدول المجاورة لأفغانستان، في بكين الصينية في 31 آذار (مارس) الجاري، وهو فرصة للاعتراف بـ”طالبان” كحكومة أمر واقع، إذ تطمح الحركة إلى الاعتراف الدولي بحكومتها، وتعتبر تبادلها المصالح مع القوى الشرقية فرصة لانتزاع هذا الاعتراف، وهو ما جاء صراحة على لسان وزير داخلية الحركة سراج الدين حقاني الذي قال خلال لقائه المبعوث الروسي، “الآن هناك فرصة جيدة للاعتراف بطالبان على أساس المصالح المشتركة والمتبادلة”.
ولذلك سيكون الاجتماع الوزاري الثالث في بكين لجني ثمار “طالبان” نحو الاعتراف بشرعيتها، أو على الأقل، الاعتراف بالتعاون معها، في ظل تأزم الأوضاع بين الشرق والغرب جراء الأزمة الأوكرانية، بما يعزز من أهمية الاقتراب من أفغانستان بالنسبة إلى القوى الشرقية خشية استخدام هذه الورقة من جانب الغرب.
ولذلك كشفت الخارجية الروسية، أن من المقرر أن تُجرى حوارات جانبية على هامش هذا الاجتماع بين وزراء خارجية الدول المجاورة لأفغانستان ووفد حركة “طالبان”.
نحو التّمكين
لا تبحث “طالبان” عن الاعتراف الرسمي بشرعيتها كجماعة مسلحة أو سياسية؛ بل تسعى إلى فرض أفكارها وأيديولوجيتها على كل جوانب الدولة والحياة في أفغانستان، في ما يشبه ما حدث في إيران بعد ثورة 1979، بعد صعود الإسلاميين وتأسيس نظام ولاية الفقيه.
ولذلك، ومن منظورها، سيكون فرض “طالبان” أيديولوجيتها فرصة لإمكان إجراء انتخابات أو أي عملية سياسية تضمن من خلالها وصول وجوه غير معارضة للنظام الذي ستفرضه على البلاد. وبالتالي أيضاً منع أي تيارات معارضة من مناوءتها. فقد توقفت معظم وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية منذ استيلاء “طالبان” على السلطة، ما مهّد لفراغ المشهد السياسي من أي قوة معارضة مؤثرة على الأرض.
أيضاً، يعني اعتماد “العَلم” الخاص بها، علماً جديداً ورمزاً للبلاد بدلاً من العَلم السابق، وذلك قُبيل اجتماع بكين، أن الحركة تسعى إلى الاعتراف بها، ليس من أجل إنقاذ الوضع المأسوي في أفغانستان؛ بل من أجل تمكين أيديولوجيتها في البلاد.
وتأتي تصريحات زعيم جبهة المقاومة أحمد مسعود شاه بأن “المحادثات قد فشلت مع طالبان، وبأن الحركة تريد منا فقط الاستسلام والولاء”، لتؤكد أن “طالبان” غير جادة في تشكيل حكومة تعددية وشاملة لكل التيارات والأطياف السياسية والعرقية في أفغانستان؛ بل هي ماضية إلى بناء نظام يخضع لأفكار هذه الجماعة. فقد ألغت الاحتفال الرسمي بعيد “النوروز” (رأس السنة الشمسية الفارسية) لتعلن تأسيس نظام لا يتقبل إلا ما يتماشى مع عقائد الجماعة الإسلامية.
كذلك، أعلنت حكومة “طالبان” إغلاق مدارس البنات الثانوية بعد ساعات من قرار إعادة فتحها. لكن القرار جاء بعد اجتماع لقادة الحركة في قندهار. ثم بعدها ترددت شائعات، نفتها الحركة بعد ذلك، بأنه تم تعيين الملا عبد الغني رئيساً للوزراء بدلاً من الملا حسن آخوند الذي يعد من أكثر القيادات تشدداً. وقد أوضح المتحدث باسم وزارة التعليم الأفغانية، عزيز أحمد ريان، أن قرار إعادة إغلاق المدارس هو للحاجة إلى مراجعة النظام التعليمي للبنات، وإعادة توزيع المُدرّسات للتدريس للبنات، وتوفير الزي المناسب للطالبات بما يتماشى مع الشريعة الإسلامية.
وتفسير ذلك، أن “طالبان” كانت تعتزم القيام بخطوة إيجابية تكون بمثابة رسالة إقناع للعالم بأنها قد تغيرت ويمكن الآن الاعتراف بحكومتها. ولكنها اصطدمت بمعارضة التيار المتشدد داخل الحركة. وهو أمر يطرح إمكان وقوع انقسام وخلافات تصل إلى حد الحرب الأهلية في أفغانستان.
المحصلة
إن حركة “طالبان” تستغل حالة التوتر بين المعسكر الشرقي والغربي، جراء الأزمة الأوكرانية، من أجل اقتناص الاعتراف بحكومتها أو على الأقل الاعتراف بوجودها كحكومة “أمر واقع” خلال اجتماع بكين المقبل.
تكشف الخلافات بين قادة حركة “طالبان”، والموقف الذي تتخذه هذه الحركة من المرأة وتعليمها وظهورها ودورها في المجتمع، والتغيرات التي طرأت على المجتمع الأفغاني منذ سيطرتها على السلطة؛ أن “طالبان” ماضية نحو تمكين أيديولوجيتها في المجتمع؛ لاستنساخ ما يشبه تجربة نظام “ولاية الفقيه” في إيران، وأن إصرار إظهار الحركة المسلحة على أنها تغيرت مقارنة بالماضي؛ هو من أجل “التمكين” قبل أي شيء.