الشرق اليوم- لا يجوز أن يمر عدوان بوتين دون عقاب، كما لا يجوز للاتحاد الأوروبي الأكثر حزما وحسما أن يكتفي بإظهار التوافق بين الحكومات الوطنية، بل أيضا وعي المواطنين بأن أمنهم ومصالحهم ومبادئهم باتت مهددة، ولن يتسنى لأوروبا أن تحقق أهدافها إلا من خلال هذه العقلية.
أعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوروبا إلى منطقة كنا نتصور أنها تحولت إلى ماض منسي لن يعود، إننا نجد أنفسنا الآن في مواجهة زعيم فَـقَـدَ صوابه وكانت سياسته الخارجية في تدهور مستمر منذ ذلك اليوم في عام 2001 عندما نظر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش إلى عينيه وقال له إنه وجد رجلا يمكنه أن يثق به.
لم يعد خطر نشوب حرب عالمية ثالثة في حكم المستحيل، فالآن، تشن روسيا هجمات على بعد كيلومترات فقط من حدود منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونظرا إلى عدم القدرة على التنبؤ بتحركات بوتين، فلا يجوز لنا أن نستبعد إمكانية وقوع مواجهة مباشرة بين روسيا والحلف، وهذا من شأنه أن يثير احتمالية يكاد يكون من المستحيل تصورها تتمثل في اندلاع صراع نووي، وهو الأمر الذي يجب أن يتجنبه قادتنا.
لأن روسيا وأوروبا تشكلان جزءا من كتلة غير منقطعة من اليابسة، فإن الاستقرار على حافة القارة يشكل عنصرا أساسيا لترسيخ السلام الإقليمي، لكن الحواجز الدبلوماسية بين روسيا والناتو تتكاثر، فنادرا ما كانت المنظمات الدولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية غائبة عن المشهد، أو حتى عاجزة، إلى هذا الحد، في مواجهة أي صراع، وحتى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي تأسست بهدف ضمان الاستقرار بين روسيا، والولايات المتحدة، وأوروبا، أثبتت كونها غير ملائمة لتحدي اليوم.
جاءت استجابة الاتحاد الأوروبي للعدوان الروسي حازمة، وقد أظهر وحدته من خلال فرض عقوبات مالية واقتصادية قاسية، لكن الحرب في أوكرانيا أظهرت أن أوروبا غير مستعدة بالقدر الكافي لمواجهة التحديات الأكثر إلحاحا التي تواجهها، ويجب على الاتحاد الأوروبي الآن أن يعمل على شحذ تركيزه على أربع أولويات:
أولا، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يعمل على توسيع قدراته الأمنية والدفاعية، ويجب أن تعمل “البوصلة الاستراتيجية” التي تُـصاغ الآن على توجيه السياسة في هذا المجال، وفي حين يتعين على أوروبا بوضوح أن تستثمر في قدراتها العسكرية، فإن هذا لا يعني زيادة إنفاق الأموال فحسب بل أيضا بذل مثل هذه الجهود كأوروبيين لا كدول منفردة. وفقا لوكالة الدفاع الأوروبية، تنفق دول الاتحاد الأوروبي في المجمل نحو 200 مليار يورو (221 مليار دولار أمريكي) سنويا على الدفاع، وهذا أكثر مما تنفقه الهند وروسيا والمملكة المتحدة مجتمعة، وتتلخص المهمة الآن في تحسين الكفاءة بدلا من الاكتفاء بزيادة الإنفاق العسكري على المستوى الوطني، وهذا يتطلب تبني رؤية أوروبية في التخطيط العسكري الوطني.
ثانيا، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يعيد النظر في اعتماده على روسيا في مجال الطاقة. كانت أوروبا تعتمد على الغاز الروسي لفترة طويلة للغاية وقد تضطر إلى دفع ثمن إغلاق هذا الصنبور، كما بدأت ألمانيا تفعل بتعليق العمل في خط أنابيب نورد ستريم 2، كما تقول ناتالي توتشي من معهد الشؤون الدولية، لا ينبغي لأي حسابات اقتصادية أن تتفوق على ما هو مطلوب لتحقيق الوحدة الأوروبية.
ثالثا، يتعين على أوروبا أن تعمل على تطوير سياسة مشتركة في التعامل مع قضية الهجرة مع تقسيم المسؤولية جغرافيا عن قبول اللاجئين من جوارنا إلى الشرق أو الجنوب. بدءا من عام 2015، قبلت المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل من جانب واحد مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، في حين نظرت بقية أوروبا في الاتجاه الآخر غالبا. اليوم، يتعين على دول الاتحاد الأوروبي أن تُـظـهِـر الإرادة المشتركة لمساعدة الفارين من الحرب.
الواقع أن نزوح مليوني أوكراني إلى بولندا منذ اندلعت الحرب سلط الضوء على التناقضات التي تعيب سياسة الهجرة الأوروبية، ولا شك أن تضامن أوروبا مع اللاجئين الأوكرانيين يُـعَـد بادرة إيجابية أظهرت مواطنينا في أفضل صورة لهم؛ ولكن يجب أن يجعلنا هذا أيضا نتأمل في مواقفنا الأقل ترحيبا تجاه اللاجئين من أجزاء أخرى من العالم.
أخيرا، يتعين على أوروبا أن تساعد في التخفيف من الآثار التي تخلفها الحرب على الأمن الغذائي العالمي، ولأن أوكرانيا وروسيا توفران معا 19% من الشعير، و14% من القمح، و4% من الذرة على مستوى العالم، فإن الصراع يؤثر أيضا على اقتصادات أخرى عديدة. على سبيل المثال، تُـدَبِّـر كينيا، التي يماثل عدد سكانها نظيره في أوكرانيا تقريبا، نصف وارداتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، ومع معاناة 276 مليون إنسان على مستوى العالم من الجوع الشديد، فستعاني المناطق الأكثر فقرا على وجه الخصوص نتيجة للصراع الحالي.
بينما يتعامل الاتحاد الأوروبي مع هذه الأولويات العاجلة، يجب أن تظل المهمة التأسيسية للاتحاد والمتمثلة في بناء السلام ومنع الحرب في جوهره. إن العالم الذي لا يزال يعاني جائحة كوفيد19 وتداعياتها، والذي يبدو حاليا غير قادر على عكس عواقب تغير المناخ، لا يملك ترف التسامح مع صراع من هذا القبيل.
لذا، يتعين على أوروبا أن تستخدم الوسائل المتاحة تحت تصرفها، بما في ذلك العقوبات، لمحاولة تغيير سلوك بوتين، وفي المقام الأول من الأهمية، يتعين عليها أن تضطلع بدور أساسي في منع الأعمال العدائية في أوكرانيا من التصاعد والتحول إلى حرب بين قوى كبرى.
من المرجح أن يكون دور الصين، التي يُـزعَـم أنها تفكر في بيع أسلحة لروسيا لمساعدة جهود بوتين الحربية، حاسما في تجنب صراع عالمي. الواقع أن الاجتماع الأخير الذي دار بين بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ، عشية الألعاب الأولمبية الشتوية هذا العام في بكين، بدا وكأنه يشير إلى نشوء شبه تحالف بين القوتين.
أشار كثيرون إلى أوجه الشبه مع زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون للصين في عام 1972، والتي بشرت بتقارب صيني أمريكي كان الهدف منه مقاومة التهديد النووي الذي يفرضه الاتحاد السوفياتي آنذاك، ولكن في حين قد تستسلم الصين لإغراء تشكيل تحالف مع روسيا، فإن نشوب حرب عالمية لن يتوافق مع طموحات شي، ناهيك عن دخول الصين في مثل هذا الصراع كطرف. إن منع ترسخ تحالف بين الصين وروسيا ضرورة أساسية للحفاظ على التوازن الحالي في العلاقات الدولية، وأوروبا قادرة على حث الصين- ويتعين عليها أن تفعل ذلك- على الاضطلاع بدور في السعي إلى التوصل إلى نهاية تفاوضية للصراع في أوكرانيا. لتحقيق هذه الغاية، من الأهمية بمكان ألا تبدو الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والناتو في مظهر الضعيف المنقسم سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية. على الرغم من مأساة حرب أوكرانيا، أشعر بالفخر بما فعلته أوروبا خلال الأسابيع القليلة الأخيرة، فقد كانت الاستجابات في بروكسل، وباريس، وبرلين، ووارسو، ومدريد بالإجماع: لا يجوز أن يمر عدوان بوتين دون عقاب، كما لا يجوز للاتحاد الأوروبي الأكثر حزما وحسما أن يكتفي بإظهار التوافق بين الحكومات الوطنية، بل أيضا وعي المواطنين بأن أمنهم ومصالحهم ومبادئهم باتت مهددة، ولن يتسنى لأوروبا أن تحقق أهدافها إلا من خلال هذه العقلية.