بقلم: عمر أنهون – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – أنجزت روسيا بحربها في أوكرانيا الكثير لعدوها الاستراتيجي، حلف «الناتو»، فوفّرت له فرصة نادرة للتوحد وتعزيز صفوفه، بشكل لم يسبق له مثيل تقريباً منذ نهاية الحرب الباردة القديمة، ووضعه الرئيس فلاديمير بوتين على مسار مفهوم استراتيجي جديد استعداداً لحرب باردة جديدة، على الأقل، انطلاقاً من ضرورة دعم أوكرانيا بما يحفظ «الأمن الأوروبي – الأطلسي».
البداية من قمة حلف شمال الأطلسي «الناتو» في بروكسل في 14 يونيو (حزيران) 2021 التي أعلنت أن «الإجراءات العدوانية لروسيا تشكل تهديداً للأمن الأوروبي الأطلسي».
وفي قمة «الناتو» الاستثنائية في بروكسل في 24 مارس (آذار) 2022، قال رؤساء القادة: «لقد اجتمعنا اليوم للتصدي للعدوان الروسي على أوكرانيا، وهو أخطر تهديد للأمن الأوروبي الأطلسي منذ عقود».
رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، عكَس المخاوف، التي خيّمت على القمة الأخيرة، بالقول إن الرئيس بوتين ربما يكون في طريقه إلى «غروزني في كييف»، في إشارة إلى قيام روسيا بتسوية بلدة غروزني الشيشانية بالأرض عام 1999، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تتصرف فيها روسيا بهذه الطريقة، إذ حدث الشيء ذاته في القوقاز في القرن التاسع عشر، وفي سوريا عام 2010 والآن في أوكرانيا.
قادة «الناتو» استمعوا إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي معرباً عن تقدير بلاده، ومشدداً على الأهمية الحيوية للمزيد من المساعدة العسكرية، لذا عمدوا إلى تأكيد أنهم يدعمون أوكرانيا بإمدادات عسكرية كبيرة، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي المضادة للدبابات والطائرات من دون طيار… وأن «هذا الدعم سيستمر». لكن «حتى لا يتحول هذا الصراع إلى حرب شاملة بين ناتو وروسيا» أكد الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، في مؤتمر صحافي بعد القمة، أن الحلفاء لن ينشروا قوات على الأرض في أوكرانيا.
في المقابل، اتخذ الحلفاء إجراءات لتعزيز الردع، ووافق القادة على أربع مجموعات قتالية جديدة تابعة لـ«الناتو في بلغاريا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا، هذا بالإضافة إلى الأربع الموجودة بالفعل في دول البلطيق الثلاث وبولندا».
يُذكر أن مجموعة القتال هي قوة متعددة الجنسيات، بحجم كتيبة، تضم 600 إلى 1000 جندي كامل التجهيز وآلاتهم الحربية.
وكان لافتاً قرار القادة تقديم المساعدة والمواد لأوكرانيا ضد التهديدات البيولوجية والكيميائية والإشعاعية والنووية؛ إذ عبّر عن الخوف من دخول أسلحة الدمار الشامل على معادلة الحرب، بعدما سبق للولايات المتحدة ودول أخرى التنبيه مؤخراً إلى إمكان لجوء روسيا للأسلحة الكيميائية. وأصلاً الروس أنفسهم أدْلوا بتصريحات تهدد ضمناً باللجوء إلى هذه الأسلحة في حال دعت الحاجة.
ورأى الرئيس الأميركي جو بايدن، وهو في طريقه إلى القمة، أن احتمال استخدام الرئيس بوتين للأسلحة الكيميائية في أوكرانيا يمثل تهديداً حقيقياً، مؤكداً: «سنردّ إذا استخدمها. طبيعة الرد ستعتمد على طبيعة الاستخدام».
ويبدو أن تركيز القادة على الاستعداد لمواجهة انجراف الحرب إلى أبعاد «دمار شامل» هدف إلى رسم «خط أحمر» أمام موسكو، التي تمتلك ترسانة هائلة من الأسلحة المدمرة. ومع ذلك، فإن مراقبين تذكروا «الخطوط الحمر» التي وضعها الأميركيون لنظام بشار الأسد في سوريا ولم يلتزموا بها حين استخدم النظام الغازات السامة ضد شعبه.
وفي قمة استثنائية لحدث خطير، ستكون له بالضرورة تداعيات على النظام العالمي، بغضّ النظر عن مآلاته، كان لا بد أن تحضر الصين بقوة على جدول الأعمال، فدعاها القادة إلى الامتناع عن تقديم دعم عسكري أو اقتصادي للجهود الحربية الروسية.
والصين أصلاً تحت رادار «الناتو» قبل الحرب في أوكرانيا. ففي قمة «الناتو» عام 2021، جرت الإشارة إلى بكين على أنها تحدٍّ محتمل. وكانت الصياغة الدقيقة لموقف الحلف كما يلي: يمكن لنفوذ الصين المتزايد وسياساتها الدولية أن تطرح تحديات نحتاج إلى معالجتها معاً كحلف. وسوف نتواصل معها بهدف الدفاع عن المصالح الأمنية لدول الحلف.
بكين ردت على الحلف بالدعوة إلى العقلانية وبتأكيد عدم الانحياز إلى أي طرف، والالتزام بميثاق الأمم المتحدة ومبادئها، وتفهم الشواغل الأمنية لجميع الدول. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية: «لحل الأزمة، هناك حاجة إلى العقلانية وإلى موقف يدعو للتهدئة بدلاً من تأجيج النيران».
لكنّ بكين لم تفوّت الفرصة للتكشير عن أنيابها. ونُقل عن مصادر رسمية قولها إنه إذا اتخذت الولايات المتحدة إجراءات تضر بمصالح الصين، بما في ذلك مصالح الشركات والأفراد الصينيين، فإنها لن تقف مكتوفة الأيدي وسترد بقوة.
أعاد قادة «الناتو» تأكيد التزامهم سياسة الباب المفتوح للحلف لكن ليس بالقوة التي عبّروا بها عن هذا الالتزام في بيان قمة 2021، عندما جرى تأكيد القرار الذي تم اتخاذه في قمة بوخارست عام 2008 بأن تصبح أوكرانيا عضواً في الحلف. أما هذه المرة، فلم تتم تسمية أوكرانيا، وما خرج لم يكن أكثر من إعلان مبدأ، إعلان لم يتوقعه أحد، بما في ذلك الرئيس زيلينسكي، أن يجري تطبيقه على أوكرانيا.
كانت تلك رسالة إيجابية لروسيا، التي تتذرع بخوفها من تمدد الحلف إلى التماس معها، بين ذرائع عدة لاجتياح أوكرانيا.
لكن كان لا بد للحلف من تأكيد مبدأ الدفاع الجماعي، بوصفه جوهرياً له ويلزم الأعضاء بحماية بعضهم بعضاً عند الحاجة. لذا ذكّر القادة روسيا مرة أخرى بأنه إذا جرى لمس أي جزء منه فلن يتردد «الناتو» في التحرك، من منطلق تأكيد أن «التزامنا بالمادة الخامسة من معاهدة واشنطن مكسوٌّ بالحديد».
واتفق القادة على أن اجتياح الرئيس بوتين لأوكرانيا غيّر البيئة الأمنية على المدى الطويل، وباتت هناك حقيقة أمنية جديدة الآن. ثمة «حرب باردة جديدة» على الأقل في «المدى الطويل» ما يتطلب من القادة العسكريين تقديم خيارات لإعادة تعيين الوضع العسكري في الجزء الشرقي من الحلف، حتى إذا جرى التوصل إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا. فقد خلص القادة إلى أنه من الضروري أن يكون الحلف على أهبة الاستعداد، في ظل الكثير من التهديدات المحتملة وبيئة أمنية غير آمنة وغير متوقعة.
ولمواجهة ذلك لا بد من زيادة الإنفاق العسكري، وهذا لم يكن مقبولاً بسهولة قبل حرب أوكرانيا.
في عام 2014، تعهد أعضاء «الناتو» بزيادة إنفاقهم العسكري بنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024. لم يكن ذلك هدفاً سهلاً؛ إذ إن الكثير من الدول بدت مترددة بدرجة كبيرة ولها اعتراضات. حققت نحو عشر دول فقط المطلوب، وكان يُعتقد أن خمس عشرة دولة أو أكثر ستقدر على ذلك بحلول الموعد النهائي.
الآن تعلن جميع دول «الناتو» تقريباً عن خطط لزيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي. وتحتل الدول الأعضاء التي تشعر بأنها الأكثر تهديداً، لا سيما الكتلة الشرقية السابقة، مركز الصدارة.
هذه القمة، أظهرت أيضاً إحساساً عاماً بالوحدة. وكانت السويد، وفنلندا، والاتحاد الأوروبي ممثلةً في الجزء الأول من القمة. وبعد القمة استضافت ألمانيا قمة «مجموعة السبع» في مقر «الناتو».
كانت «مجموعة الدول الصناعية السبع» هي نفسها مجموعة الدول الثماني حتى تم تعليق عضوية روسيا إلى أجل غير مسمى، بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014. وقال بايدن مؤخراً إنه يجب أيضاً إزالة روسيا من مجموعة العشرين. لكن من المحتمل أن يكون هذا أصعب، حيث سيعتمد القرار على الدول العشرين بأكملها، التي من المحتمل ألا يوافق بعضها على مثل هذا الاقتراح.
وقام القادة بتمديد ولاية الأمين العام ستولتنبرغ لسنة أخرى، حتى 30 سبتمبر (أيلول) 2023، لم يكن لدى «الناتو» الوقت الكافي للانشغال بالقضية الجادة المتمثلة في اختيار أمين عام جديد. ثم إن هذا القرار كان اعترافاً بقيادة ناجحة في أوقات الأزمات الشديدة، وهذه هي المرة الثالثة التي يتم فيها تمديد ولاية ستولتنبرغ.