بقلم: ياسر قبيلات – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – في العادة، لا يعرف أغلب سكان الكرة الأرضية الكثير عن البلدان الأخرى، في أغلب الأحوال، ليس أكثر من أسماء العواصم وعدد محدود من المدن الكبرى، ولكن تأتي الحرب بأهوالها ومآسيها الإنسانية، فيصبح أي بلد منكوب تحت المجهر الإعلامي.
وينتهي الأمر بأن يتعرف المشاهد العادي، ليس على حواضره المهمة فقط، ولكن حتى على زواياه الضيقة المعزولة، وبلداته وقراه النائية.
ومع الحرب، يقفز تاريخ أي بلد منكوب إلى الواجهة، ويصبح موضوعاً للاهتمام العالمي العام. كما أن ثقافته بمجملها تتحول إلى هوسٍ معدٍ، وموضوع لنقاشات متصلة لا تتوقف، تربط التاريخ بالجغرافيا، وتصل الثقافة بالتركيبة الاجتماعية، وتبحث عن صلات السياسة بالاقتصاد.
وفي النتيجة، تتشكل لوحة مركبة ومعقدة من الاهتمام الحثيث والتفصيلي، الذي لا يهدأ، حتى ليعتقد المرء أن العالم تحول إلى فصل دراسي مكثف، ومتعدد التخصصات، يسابق الزمن للإحاطة بشؤون وظروف ذلك البلد المنكوب.
وكأنما الحرب أستاذ صارم وحازم، لا يتوانى عن إرغامنا على أخذ دروس أهملناها طويلاً!
في الواقع، يمكن القول إن هذا يشير إلى واحد من وجوه الخلل الفادحة، التي تتسم بها حضارتنا في ظل النظام العالمي، الذي يفرض سلطته على البسيطة، إنه يقوم على العزل بين شعوب البشرية أكثر مما يقوم على التواصل، ويمجد التجهيل بأشد مما يشجع على المعرفة والتعارف، ويزدهر من خلال خلق مصالح متضاربة بأقوى مما يغتني برعاية المصالح المشتركة، ويبرر نفسه بالأكاذيب وأنواع التدليس باندفاع يفوق اعتداده بالحقيقة وحيثيات الواقع.
وعلى ذكر الحقيقة، التي هي دائماً أول ضحايا الحروب، هناك دروس أساسية، لا يمكن تجاوزها، تقدمها لنا الحرب الأخيرة: ثانيها؛ أن الحرب ليست الفصل الدراسي المناسب لبناء المعرفة الإنسانية، كما أنها ليست الأداة التي يعوّل عليها لتحقيق العدالة، وتطويع التاريخ، وتعديل الجغرافيا، على نحو آمن، إذ إن نتائجها، مهما كانت مؤقتة، تفرض قسراً ترحيل الأزمات ولا تعالجها.
ثالثها؛ لا يمكن إرساء العدالة عبر تجاوز دروس التاريخ وفروض الجغرافيا، وأن التكتل العالمي حول الأطماع وأحلام الهيمنة وفرض النفوذ، مهما بلغت قوته، لا يخلق شرعية، ولا يرسي مصداقية، بينما الأكاذيب، مهما كان صوتها عالياً، وتدليسها مقنعاً، لا تغطي حقيقة أن السياسة غالباً ما تكون أكثر بشاعة من الحروب.
رابعها؛ أثبتت الشركات العالمية الكبرى القائمة على المعرفة، لا سيما في قطاع المعلوماتية والتواصل الاجتماعي، أنها جزء رئيس من الوجه البشع للعالم، إذ هي تنحاز إلى التطرف السياسي الأعمى، لا العلم والتكنولوجيا وخير الإنسانية. وهذا ينطبق على المؤسسات الدولية، السياسية والمالية، التي يفترض أنها محايدة.
خامسها؛ أنها (الشركات العالمية الكبرى القائمة على المعرفة) تقيس الربح والخسارة بنفس العقلية وضيق الأفق، التي يتصرف بها المرابون، الذين تقوم مصالحهم على الأنانية والانتهازية والجشع.
سادسها؛ أن قطاع المعرفة والإعلام يتورط بالاشتراك في الحروب بسهولة واندفاع، وسرعان ما يتحول إلى فرقة مقاتلة، أو كتيبة لتزوير الوقائع، أو فصيل لإعدام الحقيقة.
سابعها؛ أن المصالح السوداء أقوى من الدبلوماسية والسياسة، ومن المعاهدات والاتفاقيات الدولية، لا بل أشد سطوة من القيم الإنسانية الراسخة، وهي أم الشرور، وعرابة الظلم والحروب.
ثامنها؛ أن فساد السياسيين أقوى من أعظم الجيوش، وأفدح تدميراً من أشد الأسلحة فتكاً، وأكثر ظلامية من أعتى المتطرفين، هذا إذا لم يكن هؤلاء الأخيرون مجرد أدوات بأيدي الفاسدين من السياسيين.
تاسعها؛ أن المتحاربين الحقيقيين، وقادة الحرب الفعليين يقفون مراقبين خارج ميادين القتال دائماً، يندبون السلام، ويتحسرون على الضحايا، ويتباكون على الديمقراطية، بينما أعينهم في الواقع مشدودة إلى مصالحهم الضيقة، وتضحك قلوبهم، في صدورهم، للحرب التي تحقق أهدافهم الدموية.
عاشرها؛ صحيح أن كل حرب تعتدي، أول ما تعتدي، على الحقيقة، لكنها مع ذلك، وعلى غير إرادة من أصحابها، تكشف جبالاً من الحقائق الناصعة، لا سيما حينما تضع مصداقية عرّابيها على المحك، وتظهر نفاقهم بما يتعلق بالحريات والديمقراطية.
الحادي عشر منها؛ أن النظام العالمي الحالي غير موثوق ولا يؤتمن، وهو قائم على معادلات القوة وسلطة الأمر الواقع، ولا علاقة له بالقانون الدولي والقيم الإنسانية، مهما تغطى بها، ولديه استعداد للحنث بأشد الالتزامات، وقد رأينا كيف يتم وضع اليد بسهولة على الاحتياطات المالية والأرصدة والأملاك الخاصة للدول والأفراد الخصوم.
الثاني عشر منها؛ أن احتكار الغرب قيادة النظام العالمي، وتوجيهه هذا النظام نحو حماية مصالحه حصراً، لم يعد يمثل عبئاً على العالم فقط، لكنه بات يشكل خطراً على الغرب نفسه، ومجتمعاته، واستمراره في موقعه القيادي.
حسناً، لكننا قفزنا عن أول الدروس التي تقدمها لنا الحرب.
في الواقع، إن أول دروس الحرب الأخيرة هو درس بديهي تماماً، مكرر ومكرور، لكنه ينبهنا إلى أن الحرب الأخيرة ليست كذلك أبداً، أي، طالما أن الإنسانية لا تزال بعيدة عن إصلاح نظامها العالمي، فإن هذه الحرب، وأي حرب مقبلة، لن تكون الأخيرة فعلاً!
الحديث يطول حول هذا «الفصل الدراسي» الكارثي، الذي يسمونه الحرب، وكل كلمة إضافية فيه أو عنه أو حوله، تكشف المزيد من ألوان البشاعة والفساد والمصالح السوداء والأكاذيب الصريحة، التي تزوّر القيم الإنسانية.
وفي المحصلة، يقود هذا إلى التساؤل عن جدوى الحفاظ على نظام عالمي ينشر الفوضى لا الاستقرار، ويؤجج الحروب ولا يبني السلام، ويقود إلى الأزمات ولا يرعى الازدهار. وكذلك التساؤل حول حصافة حضارة تحتاج إلى حروب كارثية كبيرة لتأخذ دروساً بديهية صغيرة!