بقلم: الحسين الزاوي – صحيفة الخليج
الشرق اليوم– الحديث عن أصدقاء روسيا، أو عن أعدائها، لا يحمل الدلالات نفسها التي كان يحملها النقاش السياسي في زمن الحرب الباردة، عندما كانت الدول تصطف خلف أحد المعسكرين بناءً على قناعات إيديولوجية كانت تتجاوز في أغلب الحالات مصالحها الاقتصادية المباشرة، لأسباب موضوعية تتعلق بالتحولات الكبرى التي حدثت على مستوى خارطة التحالفات في العالم، وبخاصة مع بروز فاعلين دوليين آخرين ودخول المجتمعات إلى ساحة المعركة بوصفها كيانات قادرة على التأثير في مواقف الدول القومية بشأن الأحداث المفصلية التي تشهدها مناطق عدة من الكرة الأرضية.
صحيح أن روسيا ورثت الجزء الأكبر من أصدقائها انطلاقاً من التحالفات التي كانت موجودة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، وما زال أغلب خصومها وأعدائها الأكثر شراسة ينتمون إلى المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة؛ لكنه وباستثناء الدول الغربية وفي مقدمتها واشنطن ولندن وبعض دول شرق أوروبا التي تناصب العداء لروسيا لأسباب تاريخية، فإن معظم دول العالم عملت على تعديل علاقاتها مع روسيا انطلاقاً من حسابات جيوسياسية مرنة، ويصدق ذلك حتى بالنسبة إلى حلفاء روسيا التقليديين، مثل الهند والصين. إذ إن الهند وعلى الرغم من العلاقات التاريخية التي تربطها بروسيا منذ عقود من الزمن، وبخاصة في المجال العسكري، إلا أنها استطاعت أن تطور خلال السنوات القليلة الماضية علاقاتها مع واشنطن بشكل غير مسبوق، من أجل مواجهة النفوذ الصيني المتعاظم في شرق آسيا.
أما بالنسبة إلى الصين، فمن الواضح أن بكين تحاول أن تمسك العصا من الوسط بشأن المواجهة القوية الدائرة حالياً بين روسيا والغرب، بسبب الأزمة الأوكرانية، فهي من جهة لا تستطيع أن تدين الهجوم الروسي على أوكرانيا، وهي تحمّل مسؤولية ما وقع من تطورات لحلف “الناتو” الذي أصّر على تهديد التوازنات الهشة في المنطقة، ولا يمكنها في كل الأحوال أن تدعم موقف الغرب الذي يهدد الوحدة الترابية للصين من خلال تشجيع تايوان على إعلان استقلالها الكامل عن الدولة الصينية، وهي من جهة أخرى لا تستطيع – على الأقل في هذه المرحلة- أن تتخلى عن الأسواق الغربية التي تستورد القسم الأكبر من البضائع المصنّعة في الصين، وفضلاً عن ذلك، فإن بكين طورت منظومتها الاقتصادية منذ السبعينات من القرن الماضي لتكون جزءاً محورياً من العولمة الاقتصادية، ومن ثم، فإن الثنائية المغلقة القائمة إما على الصداقة، وإما على العداوة، لا يمكن أن تخدم الرؤية الاستراتيجية الحالية للصين.
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن دول أخرى في العالم قد لا تكون صديقة لروسيا، لكنها ليست بالضرورة عدوة لها، انطلاقاً من تطورات الأحداث في أوكرانيا التي لا تعنيها بشكل مباشر، ولا تشاطر الغرب المخاوف نفسها بشأن التهديدات التي يقال إن موسكو تمثلها على السلم الدولي؛ فقد كان لافتاً على سبيل المثال، قيام باكستان، الحليف التقليدي لواشنطن، بالامتناع عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد روسيا، ومعها العراق الحليف الجديد لواشنطن في الشرق الأوسط. وتسعى دول عربية أخرى في السياق نفسه إلى عدم الانخراط بشكل مباشر في الصراع الدائر حالياً بين الغرب وروسيا اعتماداً على مبادئ وحسابات تستجيب لمصالحها الوطنية وليس لرغبات واشنطن التي تسعى إلى دفع العديد من الدول إلى خدمة أجندتها المتعارضة في أحايين كثيرة مع مصالحها القومية؛ لاسيما وأن واشنطن برهنت في مناسبات عدة، على أنها لا تلتزم دائماً بالدفاع عن مصالح حتى أقرب شركائها، مثلما حدث خلال الأشهر الأخيرة مع فرنسا.
ونستطيع القول في السياق نفسه، إن العداوة مع روسيا لن تشكل خياراً استراتيجياً حتى بالنسبة إلى دول غربية كبرى، مثل ألمانيا التي تنتظر انقشاع غيوم الهجوم الروسي لتعيد ترتيب أولوياتها على مستوى الساحة الدولية، ولن تنخرط، بحسب العديد من المراقبين، في خيارات واشنطن ولندن المتشددة بشأن روسيا، وسيتم تشغيل أنبوب غاز الشمال 2 الذي يربط بينها وبين روسيا، إن آجلاً أو عاجلاً. وهناك في الآن نفسه، شعور متزايد لدى الرأي العام الدولي بضرورة الانتقال إلى عالم جديد متعدد الأقطاب بشكل فعلي تلعب فيه ألمانيا واليابان دوراً مؤثراً في ولادة نظام دولي أكثر توازناً.
هناك إذاً، خلف طرح معادلة الصداقة والعداوة مع روسيا، حاجة عالمية ملحّة لخلق توازنات جديدة، تخدم القوى الصاعدة من جهة، والدول الضعيفة عسكرياً من جهة أخرى، وهذه الحاجة لن تتحقق في كل الأحوال من خلال الاصطفاف خلف الغرب من أجل محاصرة روسيا التي تعتبر حتى الآن القوة العسكرية الوحيدة القادرة على إحداث التوازن في مواجهة القوة العسكرية الأمريكية، وبخاصة أن الصين كانت، وستظل ربما لعقود مقبلة، قوة عسكرية إقليمية هدفها الأساسي حماية نفسها من الاختراقات الخارجية.