بقلم: بول كروجمان – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – نشرت وكالة الإحصاء التابعة للاتحاد الأوروبي «يوروستات»، الأيام القليلة الماضية، تقديرا منقحا لمعدل التضخم في منطقة اليورو لشهر فبراير. ولم يكن التقدير سعيدا. فقد ارتفعت أسعار المستهلكين 5.9% عن العام السابق، أي أكثر مما توقعه معظم المحللين. وسيتفاقم الوضع مع تأثير حرب أوكرانيا على أسعار الغذاء والطاقة.
ولم تنشر بريطانيا حتى الآن أرقاما عن التضخم لشهر فبراير، لكن «بنك أوف انجلاند»- المركزي البريطاني- يتوقع أن يضاهي التضخم في بريطانيا نظيره في منطقة اليورو. والتضخم في الولايات المتحدة أعلى، بالطبع. فقد ارتفعت أسعار المستهلكين في فبراير 7.9% عن عام سابق. وهذه الأرقام ليست قابلة للمقارنة تماما لأسباب فنية، لكن التضخم في الولايات المتحدة يزيد فيما يبدو بنحو نقطتين مئويتين عن نظيره في أوروبا.
وسأعود إلى هذا الاختلاف وكيفية تفسيره. لكن من المؤكد أنه يتعين ملاحظة حقيقة أن التضخم ارتفع في بلدان كثيرة، وليس في أميركا وحدها. والحزب «الجمهوري» برمته وعدد لا بأس به من «الديمقراطيين المحافظين» يصرون على أن الارتفاع في التضخم في الولايات المتحدة كان بسبب سياسات كثرة الإنفاق التي اتبعها الرئيس جو بايدن.
لكن أوروبا ليس لديها ما يمكن مقارنته بخطة الإنقاذ الأميركية التي وضعها بايدن. فالعجز الهيكلي في ميزانية منطقة «اليورو»، وهو مقياس معياري للتحفيز المالي، لم يمثل العام الماضي إلا نحو ثلث، كنسبة مئوية من الإنتاج المحلي الإجمالي، نظيره في أميركا. فلماذا يرتفع التضخم في أوروبا؟
جزء من الإجابة يتمثل في ارتفاع أسعار الطاقة. وفي الآونة الأخيرة أعلن الزعيم «الجمهوري» في مجلس النواب «كيفين مكارثي» أن أسعار البنزين «ليست أسعار بنزين بوتين.
إنها أسعار بنزين الرئيس بايدن». ودعوني أوضح عبث هذا الزعم مستندا على بيانات بريطانية. في أواخر ديسمبر 2020، بلغ سعر لتر البنزين في بريطانيا 116 بنسا، ما يعادل 5.94 دولار للجالون. وبحلول منتصف مارس الحالي، بلغ سعر الجالون 8.23 دولار. وخلال الفترة نفسها، ارتفعت أسعار البنزين في الولايات المتحدة من 2.24 دولار إلى 4.32 دولار. ومع الأخذ في الاعتبار ضرائب البنزين المرتفعة في بريطانيا، فإن الزيادات في الأسعار متشابهة. لكن الأمر لا يتعلق بأسعار الطاقة وحدها.
فقد تسبب في التضخم جزئيا في الولايات المتحدة مشكلات سلسلة التوريد، مع تحول كبير في الطلب نحو سلع تثقل كاهل الموانئ، وقدرة الشحن وغير ذلك. وتضررت أوروبا أيضا من هذه الضغوط نفسها التي طال أمدها بأكثر مما توقعه كثيرون منا. بماذا يخبرنا التضخم المرتفع في أوروبا؟
أولا، هناك قسط كبير – ربما يبلغ الثلثين – من تسارع التضخم في الولايات المتحدة ناتج عن مؤثرات عالمية وليس نتيجة السياسات والتطورات الأميركية على وجه التحديد. ثانيا، هذه المؤثرات العالمية قد تنحسر إذا خرجنا أخيرا من نفق الجائحة والحرب المظلم هذا، ولذا قد ينخفض التضخم في الولايات المتحدة في النهاية بشكل كبير حتى من دون تغييرات جذرية في السياسة. لكن لماذا يتصاعد التضخم على هذا الجانب من المحيط الأطلسي؟
أحد العوامل الرئيسية، وشبه المؤكدة، هو أن اقتصاد الولايات المتحدة قد تعافى بشكل أسرع من اقتصاد أوروبا. ففي الربع الرابع من عام 2021، ارتفع الإنتاج المحلي الإجمالي الحقيقي للولايات المتحدة 3%عما كان عليه قبل الجائحة، بينما غطت منطقة اليورو خسائرها بشق الأنفس. ولا يتعين التقليل من شأن هذه الأرقام استنادا إلى زيادة سرعة النمو السكاني في الولايات المتحدة لأن السكان في سن العمل يعانون في الواقع من الركود منذ عام 2019، وهذا يرجع في جانب كبير منه إلى انهيار الهجرة. وقد ساعد النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة العمال وأيضا الإنتاج المحلي الإجمالي.
فعلى الرغم من تآكل الأجور الحقيقية لكل ساعة عمل بسبب التضخم، ارتفع إجمالي تعويضات العمال 13.6% منذ بداية الجائحة مقابل 5.2% فقط في أوروبا. ويشير التضخم الكبير الآن، إلى أن النمو الاقتصادي الأميركي الأخير كان شيئا جيدا للغاية. ومن الواضح أن اقتصادنا متضخم، وهذا يجعل الاحتياط الاتحادي محقا في بدء رفع أسعار الفائدة ويجب عليه مواصلة هذا حتى ينحسر التضخم. صحيح أن الاقتصاد التضخمي يمثل مشكلة، لكن يجب ألا نتركها تلقي بظلالها على ما حدث من أشياء جيدة.
لقد تعافينا سريعا من ركود الجائحة وتجنبنا فيما يبدو التأثيرات التي تترك «ندوبا» طويلة الأمد التي كان يخشاها كثيرون. ومعظم، وليس كل، التضخم الذي نكابده ناتج عن مؤثرات عالمية مؤقتة على الأرجح. وتوحي مؤشرات كثيرة – مثل استطلاعات رأي المستهلكين والمتنبئين المحترفين والأسواق المالية – إلى أن التوقعات طويلة الأجل للتضخم مازالت مقيدة، وهذا يعني أن التضخم ليس مترسخا في الاقتصاد.
ومازال هناك السؤال حول سبب شعور الأميركيين بالسوء تجاه الاقتصاد، أو على الأقل يخبرون القائمين باستطلاعات الرأي بأنهم يشعرون بالسوء، لكنهم ينفقون كمتفائلين. نحن لسنا منفردين في هذا. فثقة المستهلك الأوروبي تضررت أيضا في مواجهة التضخم، على الرغم من أنه المستهلك الأوروبي لم يشهد الانخفاض الذي عشناه هنا.
ولهذا موضوع يوم آخر. لكن أود الآن حث الأميركيين على النظر إلى اقتصادهم في المرآة الأوروبية. فقد كان التعافي من الجائحة شاقا دوما، وفاقمت الأزمة الأوكرانية المشقة. لكن في ظل هذه الظروف، أبلينا بلاء حسنا في الواقع.