بقلم: جوزيف ستيجليتز ومارك وايسبروت – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – نجح مشروع اتفاق جديد بين الأرجنتين وصندوق النقد الدولي في تجنب التقشف.
وفي انتظار موافقة الكونغرس الأرجنتيني ومجلس إدارة صندوق النقد الدولي، سيسمح الاتفاق للاقتصاد الأرجنتيني بالنمو بينما تواصل الحكومة جهودها الرامية إلى الحد من الفقر وخفض معدلات التضخم تدريجياً.
ومع مواجهة عدد كبير من البلدان لضائقة الدين بسبب الجائحة، يتعين على صندوق النقد الدولي أن يتبنى تغييرات مماثلة لسياساته في أماكن أخرى.
من المعروف أن النموذج القديم للتقشف غير ناجح. فهو لا يتسبب في انكماش الاقتصاد وفرض قدر مفرط من المعاناة على السكان فحسب؛ بل ويفشل أيضاً في تلبية حتى الأهداف الضيقة المتمثلة في تقليص العجز وزيادة قدرة الدولة على سداد مستحقات الدائنين.
ادّعى أنصار التقشف أنه نجح في بعض البلدان. لكنها كانت اقتصادات صغيرة محظوظة بالقدر الكافي للعثور على شركاء تجاريين يتمتعون بطفرة ازدهار في وقت تنفيذ تدابير التقشف. تعوض هذه التأثيرات الإيجابية غير المباشرة عن التخفيضات في الإنفاق العام، لكن هذه الاقتصادات ذاتها ربما كانت لتسجل نمواً أكبر لو لم تحتضن سياسات التقشف على طريقة هربرت هوفر.
في الوقت ذاته، أظهرت الأرجنتين مزايا استراتيجية بديلة تركز على النمو. عندما يُـسـمَـح للاقتصاد بالتوسع، يصبح من الممكن أن تزداد الإيرادات الضريبية بسرعة.
أثار الإعلان عن اتفاقية جديدة بين صندوق النقد الدولي والأرجنتين بعض التعليقات الانتقادية التي اقترحت أن هناك شيئا ما في دماء الأرجنتينيين يجعل بلدهم غير جديرة بالثقة ــ كما لو كانت أمة من الكسولين المتملصين من ديونهم. الافتراض هنا هو أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع المعتادين على التخلف عن سداد ديونهم هي القسوة الشديدة.
بخلاف ذلك، يُـفـتَـرَض أن الحكومات البيرونية «اليسارية» المسرفة ماليا ستخلف حالة من الفوضى لتتولى لإدارة التالية من يمين الوسط تنظيفها، مع تكرار هذه الدورة إلى ما لا نهاية.
الواقع أن هذا الانتقاد الذي يردده موجهوه دون تفكير أبعد ما يكون عن الحقيقة. فعندما تولى آخر رئيس من يمين الوسط، موريسيو ماكري، منصبه في عام 2015، كان الدين العام الخارجي المستحق على الأرجنتين صغيراً نسبياً، عند مستوى %35 من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب سياسات النمو وإعادة الهيكلة التي انتهجتها الحكومات السابقة. انطلق ماكري بعد ذلك في فورة من الاقتراض.
ففاز بالثناء من جانب المقرضين في وال ستريت الذين كانوا سعداء بالاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة التي قدمها. ولكن في غضون بضعة أعوام، بدأ كل شيء ينهار. وبحلول عام 2019، ارتفعت الدين العام الأجنبي في الأرجنتين إلى %69 من الناتج المحلي الإجمالي.
قدم صندوق النقد الدولي أكبر قروضه على الإطلاق لحكومة ماكري في عام 2018، دون حتى فرض شروط لحظر استخدام الأموال لتمويل تدفقات رأس المال إلى الخارج أو خدمة الديون غير المستدامة المستحقة لدائنين من القطاع الخاص. ما حدث بعد ذلك لم يكن مفاجئاً: هروب رأس المال، والانكماش الاقتصادي، وارتفاع التضخم إلى عنان السماء، حيث بلغ %53.8 في عام 2019.
ظهر ذات النمط في تسعينيات القرن العشرين في عهد الرئيس كارلوس منعم. كان منعم محبباً لدى صندوق النقد الدولي، وقد أُحـضِـر إلى واشنطن وجرى تقديمه على أنه نموذج مثالي للحكم الرشيد وصنع السياسات الاقتصادية السليمة.
ولكن بعد فترة من الاقتراض الحكومي المكثف من الخارج، انزلقت الأرجنتين إلى حالة من الكساد المدمر دامت من 1998 إلى 2002. وفي عام 2003، تمكنت إدارة نيستور كيرشنر البيرونية من تحقيق التعافي السريع. وقد فعلت ذلك من خلال تنفيذ استراتيجية نمو عريضة القاعدة.
الأسواق المالية مهووسة بالتضخم غالباً، وقد يمثل التضخم مشكلة لآليات عمل اقتصاد السوق.
من الواضح أن الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز كان ليفضل أن لا يرث اقتصاداً مرتفع التضخم عندما تولى المنصب في عام 2019. لكن كل حكومة يجب أن تتدبر أمورها بما لديها من أدوات، وسوف تظل المقايضات الصعبة في صنع السياسات الاقتصادية قائمة دوماً.
كثيراً ما تنحي برامج صندوق النقد التقليدي جانباً المخاوف بشأن التكلفة التي يتكبدها الناس والاقتصاد، وخسارة النمو، وزيادة الفقر، فتلاحق استراتيجية «القطع والحرق» القائمة على التقشف الخافض للميزانية.
مع ارتفاع معدل التضخم إلى %50.9 في عام 2021، يصر بعض المراقبين على أن الأرجنتين في احتياج إلى برنامج ركودي لجعل الأسعار تحت السيطرة. ولكن حتى لو أدى التقشف المتجدد إلى تحقيق هذه الغاية، فإن العلاج سيكون أشد وطأة من المرض. في دولة حيث يعيش 40% من السكان تحت خط الفقر بالفعل، لن يكون أي برنامج يزيد معدل البطالة بالقدر الكافي لخفض التضخم بسرعة مستداماً أو مبرراً.
تُـعَـد اتفاقية الأرجنتين الجديدة مع صندوق النقد الدولي مجرد بداية. ولكن سيظل هناك دوماً أولئك الذين يتوقون إلى استعادة صندوق النقد الدولي القديم، وشروطه الانكماشية، التي تكون عادة قاسية أو مسايرة للتقلبات الدورية. هذه السياسات من شأنها أن تدفع الأرجنتين والعالم إلى كارثة محققة.
ذلك أنها ستعمل على تعميق الفجوة بين الاقتصادات المتقدمة والبلدان النامية والأسواق الناشئة، مما يزيد من تقوض مصداقية صندوق النقد الدولي، الـمُـكَـلَّـف بضمان الاستقرار المالي العالمي، في وقت حيث تشتد الحاجة إلى التدابير الكفيلة بتحسين هذا الاستقرار.
أثناء تنفيذ البرنامج الجديد، ستواجه الأرجنتين حتماً بعض الصدمات ــ الإيجابية والسلبية. مع استمرار جائحة مرض فيروس «كورونا» 2019 (كوفيد19) في الانتشار، وفي ضوء الصراعات الجيوسياسية القائمة، يُـصبِـح خطر الصدمات السلبية حقيقياً. وقد تعني أي صدمة عكسية كبيرة تراجع النمو وارتفاع العجز عن كل التوقعات، مما يتطلب إعادة المعايرة.
في هذه الحالة، يصبح من الواجب إلغاء اللغة القديمة التي يستخدمها صندوق النقد الدولي ــ «انحرف البلد عن المسار». وربما يكون البديل: «تواصل الحكومة وصندوق النقد الدولي العمل معاً لضمان استجابة الدولة بشكل فَـعّـال للصدمة حتى يتسنى استعادة النمو المشترك، لأن تحقيق الأهداف المتفق عليها لن يتأتى إلا من خلال مثل هذا النمو».
لا شك أن الأفكار القديمة تتلاشى بصعوبة (بصرف النظر عن عدد مرات إثبات كونها خاطئة)، ومن المؤكد أن إعادة بناء المؤسسات عملية بطيئة. ما يدعو إلى التفاؤل أن اتفاق صندوق النقد الدولي الجديد سيسمح للأرجنتين بالتصدي للتحديات التي تواجهها، بدلاً من تكبيل يديها.