بقلم: عاطف الغمري – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – في خلفية الواجهة الظاهرة لصناعة قرار السياسة الخارجية الأمريكية، باب خلفي يسبق عملية اتخاذ هذه القرارات، يلتقي عنده خبراء مختصون بالدراسة الشاملة والمتعمقة لشخصية رئيس الدولة المقرر تطبيق سياسات معينة تجاهها. هذه الدراسة لا تقتصر على أهداف وسياسات هذا الرئيس، بل إنها تتناول إلى جانب منها وبالتفصيل طبيعة شخصية هذا الرئيس والمحفزات النفسية لقراراته وسياساته.
ولمدة عشرين عاماً كان هناك تركيز من الخبراء المختصين بهذا الفرع من الدراسات النفسية، على شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكان هذا الاهتمام مستمراً في عهود الرؤساء سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين.
واحدة من هؤلاء الخبراء، وأكثرهم خبرة بالشؤون الروسية هي فيونا هيل، التي كشفت مؤخراً في كتابات لها عن الدراسات التي تناولت شخصية بوتين من كافة جوانبها السياسية والنفسية، لكنها وسعت دائرة الرؤية للشخصية، لتشمل إدارة الأزمة الحالية بين أمريكا والغرب، وبين روسيا، بحيث طرحت وجهة نظرها باعتبارها صاحبة خبرة في الشأن الروسي، وبدأتها بالقول «إن الوقت لم يضع بعد سواء لأوكرانيا، أو لحلف الناتو، من أجل تفادي صدام عسكري ليس لمصلحة الطرفين».
وقالت: «إذا كان بوتين يتصرف بوازع من عاطفته الإنسانية، وهو مستعد لاستخدام كل الأسلحة المتاحة له، إلا أن ذلك لا يجعلنا نفقد الأمل في التفاهم. وهو كما يظهر من خطبه الأخيرة، فإنه يتملكه تشاؤم من مواقف الغرب تجاه روسيا، وهو ما كان واضحاً من تبريره للحرب على أوكرانيا».
وحين يتحدث بوتين عن سلوكيات الغرب تجاهه، فكأنه يقول لنا إنكم قمتم بغزو العراق – وغيره – فليس من حقكم أن تقولوا لي لا تفعل في أوكرانيا نفس ما فعلناه نحن. ثم تشرح فيونا هيل، الدور الذي قام به فريق الأبواب الخلفية تجاه الأزمة حول أوكرانيا، وتقول «إنني كنت ضمن فريق للمخابرات الوطنية الأمريكية مهمته تحليل لما يمكن لروسيا أن تفعله، رداً على إعلان حلف الناتو فتح أبوابه لمن يريد الانضمام إليه، وكان المقصود بذلك الدول صاحبة العضوية السابقة في حلف وارسو، والجمهوريات التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، والتي استقلت بعد تفككه، والتي تقع على مقربة من حدود روسيا».
وتضيف «وصل تحليلنا إلى وجود خطر من لجوء روسيا إلى عملية عسكرية رداً على ذلك، وكان نوعاً من عملية استباقية، وكانت توصيتنا أن علينا التعامل بحذر وبجدية مع هذا الاحتمال، وأيضا بعلاقتنا مع روسيا».
لكنها قالت أيضاً: «للأسف إن لدينا في أمريكا سياسيين، وشخصيات عامة ترى أن ظلماً قد وقع من الناتو على بوتين، وإن لديه الحق في أن يفعل ما فعله، وإن ما تفعله روسيا هو عين الصواب، فهي تدافع عن حق لها، ثم إننا قد ارتكبنا أخطاء رهيبة». صحيح أنه لا يحق لأي دولة تدمير دولة أخرى على غرار ما حدث لأوكرانيا، لكن ما حدث هو أن بوتين قد فتح في أوروبا باباً كنا نعتقد أنه أغلق بعد الحرب العالمية الثانية.
وتحدثت عما يتوقعه البعض من نشوب حرب عالمية ثالثة، فقالت إننا الآن نعيش في أجواء حرب ساخنة حول أوكرانيا، لكن سخونتها لم تحدث فجأة. فقد كانت لها مقدمات منذ عدة سنوات، وعلى الأرجح منذ عام 2014، وتركت ظروفها لتصل إلى حد المواجهات العسكرية التي أصبحت أوكرانيا ميداناً لها، فإن أزمة أوكرانيا قد سبقها عشرون عاماً من توسع حلف الناتو في اتجاه حدود روسيا، في تعارض مع وعود – من جانب أمريكا ذاتها في عام 1993 – باحترام هذه الحدود، وكان ذلك متوافقاً مع انتهاء الحرب الباردة، التي توقفت عندها الخصومة العقائدية بين الولايات المتحدة وروسيا.
إن الرؤية التي طرحتها فيونا هيل الخبيرة في دراسة روسيا وقائدها بوتين، والتي كانت شريكاً متميزاً ضمن الفريق الذي تخصص في دراسة شخصية بوتين، تمثل رؤية صادرة عن قراءة ما يدور في عقل رئيس روسيا، وأي قرار مهم يوشك أن يتخذه، وهي رؤية كان مطلوباً منها أن تضع تحت عين الرئيس الأمريكي وإدارته، حقائق مجردة، لا تلتزم بالموقف الرسمي للإدارة، وبالتالي فإن قراءة التحليل الذي عرضته، في ظروف أزمة دولية شديدة الخطورة، يبتعد في مضمونه ولغته عن اللغة الصادرة عن رؤساء وقادة الدول المتواجدين عملياً في قلب هذه الأزمة، وبالأخص قادة الولايات المتحدة، وحيث تضع فيونا هيل أمامهم موقفاً ينصح بتهدئة الصراع المتزايد على المستوى العالمي، الذي يهدد الجميع، ويرتبط بذلك ما طرحته عن أخطاء لكل أطراف الأزمة، ودون أن تبرئ أحداً.