الشرق اليوم- قد تبدو سياسة الهند المبنية على نهج “التحرك شرقاً” بعيدة كل البعد عن الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن هذه الحرب تؤثر في التزامات نيودلهي شرقاً، ويتزامن هذا الوضع مع تجدّد الضغوط على نزعة الهند القديمة إلى التمسك بسياسة عدم الانحياز والاستقلالية الاستراتيجية في سياستها الخارجية، لكن تتعدد المؤشرات التي تثبت أن الهند بدأت تبتعد عن هذه المقاربة بعد تصادمها مع الجيش الصيني في وادي جلوان في يونيو 2020.
لكن رغم تراجع أهمية عدم الانحياز بالنسبة إلى الهند في سياق المواجهة الصينية الأمريكية المتواصلة، تبقى هذه السياسة عنصراً أساسياً من مواقف البلد تجاه العلاقات الروسية الأمريكية، وتزامناً مع تحوّل روسيا إلى دولة منبوذة، ستزيد الضغوط على نيودلهي، مما يجبرها على اتخاذ قرارات صعبة، وستكون سياسة “التحرك شرقاً” الهندية اختباراً محورياً في هذا المجال.
من المتوقع أن تبقى رغبة الهند في المشاركة في المبادرات الإقليمية التي تقودها الولايات المتحدة محدودة تزامناً مع تمسّك نيودلهي بسياسة عدم الانحياز والاستقلالية الاستراتيجية، ولا ننسى الخلافات حول تفسير المبادئ الأساسية مثل حرية الملاحة، كذلك، قد يؤدي اتكال الهند المفرط على المعدات العسكرية الروسية إلى تأخير أو تغيير مسار الصادرات الدفاعية الهندية الناشئة والمتزايدة نحو جنوب شرق آسيا (طُوّرت صواريخ “براهموس” مثلاً كجزءٍ من مشروع مشترك مع روسيا)، ويعني ذلك أن الهند لن تنضم على الأرجح إلى الترتيبات الأمنية المؤسسية التي تقودها الولايات المتحدة عبر تحالف “العيون الخمس” أو اتفاق “أوكوس” إلا إذا تدهورت العلاقات الهندية الصينية بدرجة كبيرة غداة اندلاع حرب شاملة.
نتيجةً لذلك، قد تصبح نيودلهي في موقف لا يُحسَد عليه وتتعرض للتهميش في الهندسة الإقليمية باعتبارها داعمة فاترة للمبادرات الإقليمية المفتوحة والشاملة التي تقودها رابطة أمم جنوب شرق آسيا والتكتلات الإقليمية المحدودة بقيادة الولايات المتحدة والصين، بما في ذلك التحالف الرباعي ومنظمة شنغهاي للتعاون، فقد سبق أن اتضح هذا الوضع في طبيعة الردود على الغزو الروسي ضد أوكرانيا، فقد بدت الهند الجهة الدخيلة بين دول التحالف الرباعي على مستوى العقوبات ضد روسيا، ومن المتوقع أن يتوسع هذا التباين فيما تدعو الولايات المتحدة حلفاءها وشركاءها الإقليميين إلى بذل جهود مضاعفة للتصدي لتنامي قوة الصين وروسيا، وقد تشمل هذه الجهود تعزيز الدعم للدول الأصغر حجماً التي تواجه ضغوطاً متزايدة من بكين، على غرار البلدان المتورطة في النزاعات الإقليمية البحرية في بحر الصين الجنوبي، تزامناً مع دعم أوكرانيا ودول شرق أوروبا الأصغر حجماً في وجه العدوان الروسي.
لم يعد التوتر القائم بين روسيا والولايات المتحدة يحتل الأهمية نفسها في سياق التزامات الهند شرقاً، حيث تحتدم المنافسة الأساسية بين الولايات المتحدة والصين في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، لكن تبقى الآثار المعاكسة واضحة، حيث واجهت الهند تُهَماً بالبقاء على الهامش في الهندسة الإقليمية لفترة طويلة، وهذا جزء من الأسباب التي دفعت الهند إلى تغيير اسم مقاربتها من سياسة “التطلع شرقاً” إلى سياسة “التحرك شرقاً” في عام 2014، إذ تعكس هذه الاستراتيجية رغبة البلد في زيادة طابعها البراغماتي والعملي والتركيز على تحقيق نتائج ملموسة، لكن الانقسامات المتجددة في النظام الدولي تجازف بتأجيج الضغوط تزامناً مع تهميش الهند داخل الهندسة الإقليمية، ويترافق هذا الوضع مع إصرار نيودلهي على التمسك بتعددية اصطفافاتها واستقلاليتها الاستراتيجية ومحاولات الحفاظ على علاقات قوية مع موسكو وواشنطن في آن، علماً أن الهند ليست الدولة الوحيدة التي تتخذ هذا الموقف. ستكون هذه الاعتبارات أساسية في حين تحاول نيودلهي تطوير “سياسة التحرك شرقاً” وإطلاق المرحلة المقبلة من هذه الاستراتيجية.