بقلم: عبدالوهاب بدرخان – النهار العربي
الشرق اليوم – لم يكن واضحاً، بعد المكالمة بين الرئيسين الأميركي والصيني، أيّ منهما أقنع الآخر أو أثّر في موقفه. كانت واشنطن قد طلبت القمة الافتراضية بين جو بايدن وشي جين بينغ، بهدف حضّ بكين على توضيح موقفها في ضوء محادثات غير حاسمة جرت بين مستشاريهما في روما.
كان هناك قلق أميركي من احتمال دعم الصين روسيا مالياً أو تسليمها عتاداً عسكرياً أو مساعدتها للالتفاف على العقوبات، ولم يزُل هذا القلق بعد القمة. في المقابل، لا يمكن الصين أن تتجاهل أو تستبعد احتمال فرض عقوبات تعرقل مشاريعها التجارية، خصوصاً بعدما لمست حجم التضامن الغربي في معاقبة دولة كبرى مثل روسيا، للمرّة الأولى في التاريخ المعاصر.
سمع شي نظيره بايدن يحذّره من “تبعات”، وبلغته تعليقات لمسؤولين أميركيين كبار تتوعّد الصين بأن تدفع غالياً ثمن تفعيل دعمها – السياسي، حتى الآن – للغزو الروسي لأوكرانيا. لا يريد شي “الحرب الاقتصادية” الغربية ويقرأها من زاوية مختلفة عن تلك التي يعتمدها فلاديمير بوتين، فالأول ترتكز قوّته على الاقتصاد تحديداً، أما الآخر فيستند إلى التحدّي العسكري، والأول يبني ترسانة عسكرية لتحصين إمبراطوريته التجارية، لكن هذه يمكن أن تهتزّ إذا دخل مواجهة جدّية مع الغرب، فيما فوّت الآخر فرص الانفتاح الغربي عليه مالياً واقتصادياً ولم يفكّر في تطوير التعاون والتبادل ليصبحا “تعايشاً سلمياً” بل ظلّ يهجس بـ”ثأر تاريخي”، وبموازاة ذلك لم يتمكّن من الإجابة عن سؤال مشروع: لماذا تطمح الدول، وخاصّة شعوب الدول الواقعة تحت السطوة الروسية، للتخلص منها باللجوء إلى حلف شمال الأطلسي؟ لا بدّ أن هناك ما هو أبعد من طلب الحماية.
فيما يعمل بوتين على “أوكرانيا محايدة” يجد شي جين بينغ نفسه مطالَباً، أميركياً، بالعمل على “إنهاء حرب بوتين” أو بالبقاء “محايداً” حيال المواجهة الحاصلة. خياران لا ترغب الصين فعلاً في أيّ منهما. إذ إن لها مصلحة في الأداء البوتيني عموماً حتى لو كانت لديها مآخذ عليه، ولها مصلحة في “العملية العسكرية” خصوصاً (بكين لم تسمِّها حرباً أو غزواً لئلا تضطرّ لإدانتها) وإن كانت لديها ملاحظات على المسار الذي تتخذه.
سبق للرئيس الصيني أن وصف العلاقة مع روسيا بأنها “شراكة بلا حدود”، ومن الطبيعي أنه يرى في ضغوط الرئيس الأميركي دعوة إلى وضع “حدود” لهذه الشراكة.
نُقل عن شي قوله، خلال القمّة مع بايدن، إن “الحرب يجب أن تنتهي في أقرب وقت ممكن”، وإن “الأولويات القصوى هي الآن لمواصلة الحوار والتفاوض وتجنّب وقوع خسائر في صفوف المدنيين ومنع حصول أزمة إنسانية”… لكن كل ذلك لا يعني شيئاً ما لم تكن لدى الصين مبادرة، وما لم تكن مستعدةً للتدخل أو التوسّط لدى بوتين من أجل إنهاء الحرب.
يُفهم من التعليقات الأميركية والصينية التي سبقت أو أعقبت قمة بايدن – شي أن هناك قلقاً لم يتبدّد في واشنطن حيال موقف صيني يبقى ضمنياً وفعلياً أقرب إلى موسكو مهما جرى تغليفه خارجياً بلغة وسطية أو خشبية. في المقابل، تبدي بكين غموضاً قد يكون تقليدياً، لكن خياراتها الرئيسية محسومة، فلماذا تطالب بإنهاء حرب تعتبر أن روسيا تخوضها “مضطرّة”، فيما يقول الغرب إنها “غير ضرورية”، ولماذا تدعو بوتين إلى التراجع وهي معنية بـ”انتصاره” في مواجهة مصممة لتكريس تعدّد الأقطاب الدوليين وتغيير النظام الدولي، ولماذا تتدخّل في أزمة ترى أن الغرب مسؤول عنها، وبالتالي عليه أن ينهيها كما افتعلها.
بالنسبة إلى الصين، لا تكمن المشكلة حالياً في حرب تهدّد الأمن العالمي، بل في عقوبات تتسبب في اختلال سلاسل الإمدادات. فعلى سبيل المثال، قال نائب وزير الخارجية لي يو تشينغ خلال منتدى أمني في بكين إن “العقوبات ضد روسيا صارت شائنة بشكل متزايد”، وإن “حلف الأطلسي يجب ألا يتوسّع شرقاً، بحيث يجعل قوّة نووية مثل روسيا محاصرة”، وفي ضوء الواقع الراهن، تبدو هذه الحجج بمثابة تزكية للحرب. أما خلاصته القائلة إن “التاريخ أثبت أن العقوبات لا يمكن أن تحلّ المشكلات”، فقد تعني أن الحرب هي التي تحلّها.
كثيرون حول العالم ربما يشاطرون هذا الرأي، مفضّلين لو أمكن حسم الصراع بالتفاوض، لكن مطالب موسكو بدت تعجيزية، على خلفية الحشد العسكري، ولم تعطِ التفاوض مجالاً للنجاح. وقبل اشتعال الحرب حُدّد الردّ عليها بالعقوبات، فهل كان من الأفضل الردّ بحشد “الناتو” قدراته العسكرية، كما بدأ يفعل الآن؟ وهل كان المطلوب التلويح بالتهديد النووي والكيماوي والبيولوجي لاستباق غزو أوكرانيا أم لإضفاء “مشروعية” أمنية على “حرب بوتين”؟
كان بوتين استبق قمة بايدن – شي بخطاب تحدّيات في اتجاهَين: الأول للتقليل من شأن العقوبات وشدّ العصب في الداخل نظراً إلى معارضة واسعة للحرب (“الدول الغربية تريد إلحاق الضرر بكل أسرة روسية”)، والثاني لمخاطبة الغرب (“إذا كان الغرب يعتقد أن روسيا ستتراجع فإنه لا يعرف روسيا”) وكذلك لمخاطبة الصين وكل دولة أخرى تراهن على تعدّد الأقطاب (“محاولة الغرب للهيمنة على العالم لن تنجح”). ولئلا تكون هناك شكوك لدى بكين فقد أكّد بوتين بنفسه أن “العملية العسكرية ناجحة” وتسير “وفقاً للخطّة المرسومة”، بل إن التفاوض مع أوكرانيا يمضي بدوره في اتجاه تلبية مطالب روسيا، كما أكّد سيرغي لافروف بدوره مراراً… أي، بمعنى آخر، ليس للرئيس الصيني أن يقلق، فأوكرانيا هي بداية تحقيق الهدف الاستراتيجي المشترك (تغيير النظام الدولي) وإن طالت الحرب.
لا يستطيع شي البقاء كمراقب، خصوصاً إذا كانت الحسابات متطابقة بينه وبين بوتين. فروسيا تواصل تدمير أوكرانيا وتتفاوض معها موحيةً يومياً بأنها على وشك فرض إرادتها، حتى أن الرئيس الأوكراني نفسه يؤكّد التقارب في المواقف من مسألة “حياد” بلده، وحتى “تجريدها من السلاح”، لكنه لم يحصل بعد على اتفاق لوقف إطلاق النار وجدولة لانسحاب القوات الروسية، والأهم أنه لم يحصل على “الضمانات الأمنية” لما يُتّفق عليه. لا يمكن تلبية مطالب روسيا بوجود قواتها على الأرض، لذلك يقول المفاوض الأوكراني ميخايلو بودولياك إن الجانب الروسي يتحدّث فقط عن مطالبه، أما وزيرة الخارجية البريطانية فتعتبر المفاوضات “ستاراً دخانياً” لحجب الاستنزاف العسكري لأوكرانيا.