الرئيسية / مقالات رأي / أوروبا «القارة المظلمة» ساحة لموجة هجرة ضخمة جديدة

أوروبا «القارة المظلمة» ساحة لموجة هجرة ضخمة جديدة

بقلم: بيتر غاتريل – الشرق الأوسط

الشرق اليوم – ثمة موجة هجرة كبرى أخرى تتكشف فصولها اليوم، وذلك مع فرار ما لا يقل عن مليونين ونصف المليون أوكراني من القصف الروسي إلى نحو جميع أنحاء أوروبا، في الوقت الذي تشرد فيه ما يقرب من مليوني أوكراني داخل أوكرانيا. ويبدو الوضع برمته حالة اضطراب مأساوية، في ظل تشتت العائلات، وهجرة الناس لبيوتهم وتساقط الأرواح.

ومع ذلك، فإن هذه الحالة، مهما كانت بائسة، لا تخلو من سوابق، فأثناء ذروة الحرب في البوسنة والهرسك عام 1992، فر مليون شخص من منازلهم. وبحلول الوقت الذي انتهت فيه الحرب في أواخر عام 1995، كان نصف السكان قد نزحوا، وتشرد كثير منهم داخلياً. على مدار القرن العشرين، كانت أوروبا – «القارة المظلمة» كما قال مارك مازوير – مسرحاً لكثير من أزمات اللاجئين.

وبطبيعة الحال، فإن هذه الحقيقة لا تقدم عزاءً ولا سلوى تذكر للأشخاص الذين يسعون نحو المأوى والأمن في خضم حرب وحشية. ومع ذلك، يبقى أمر مهم وراء حقيقة أن أوروبا والعالم قد ارتقيا إلى مستوى التحدي المتمثل في استيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين من قبل. بجانب ذلك، حفزت التحركات الكبيرة للاجئين على اتباع توجهات أكثر إنسانية وإنصافاً تجاه توطين اللاجئين.

في عالم يفتقر إلى المثالية، حيث نزح ما لا يقل عن 82.4 مليون شخص قسراً بحلول نهاية عام 2020، يجدر بنا أن نتذكر هذه الجهود. في الماضي، كان التغيير يخرج من رحم المأساة في كثير من الأحيان. واليوم، ربما نرى في الترحيب الممنوح للأوكرانيين بجميع أنحاء القارة الأوروبية بصيصاً من الأمل في مستقبل أفضل.

من جانبها، كتبت الصحافية الشهيرة ومراسلة الحرب مارثا جيلهورن: «كلمة لاجئ غارقة في الذكريات». داخل أوروبا، تلقي هذه الذكريات بظلالها القاتمة، خصوصاً الحرب العالمية الثانية. وثمة سبب وجيه وراء هذا الأمر، ذلك أنه في أعقاب الحرب طرد نحو 10 ملايين من أبناء العرق الألماني، رجالاً ونساء وأطفالاً، من شرق ووسط أوروبا. كما نزح أكثر من نصف مليون أوكراني وما لا يقل عن مليون بولندي عندما أعيد ترسيم الحدود بين بولندا والاتحاد السوفياتي.

وقد تسببت الحرب العالمية الأولى في اضطرابات مماثلة، ذلك أنه قبل الحرب وأثناءها وبعدها، كان اللاجئون يتنقلون بأعداد كبيرة عبر القارة، وربما وصل عددهم إلى 15 مليوناً أثناء الحرب نفسها. على سبيل المثال، تبدو هناك أوجه مقارنة بين الفرار السريع للمدنيين من غزو العدو لبلجيكا عام 1914 وصربيا عام 1915 والوضع القائم في أوكرانيا اليوم. وجاءت الخسائر في صفوف السكان مروعة، فقد لجأ ما بين خُمس وعُشر سكان البلاد للهروب إلى الخارج، في انتظار عودة الأمن.

ولا ينبغي لنا أن ننسى حجم ووتيرة النزوح خارج حدود أوروبا. في جنوب آسيا، تفوق الأعداد قدرة المرء على التصور، فقد نزح ما بين 14 و18 مليون شخص وتركوا ديارهم بسبب تقسيم الهند. كان الوضع في البنجاب قاسياً على وجه الخصوص، ذلك أن ثمانية ملايين لاجئ فروا عبر الحدود الجديدة التي تفصل بين غرب باكستان والهند في غضون ثلاثة أشهر أواخر عام 1947. وبعد عقدين من الزمن، أدت الحرب التي أسفرت عن ظهور بنغلاديش عام 1971 إلى نزوح نحو ثلاثة ملايين لاجئ في غضون أسابيع.

وتعين هذه الأحداث التاريخية على فهم الحاضر. إلا أن الأرقام تحكي نصف القصة فحسب، ذلك أنه إلى جانب بعض الاضطرابات الكبرى التي وقعت في الماضي، ظهرت ردود فعل دولية جماعية. في كثير من الحالات، مثلما كانت الحال مع اللاجئين الذين فروا من إسبانيا في عهد فرانكو أثناء الحرب الأهلية الإسبانية أواخر الثلاثينات، تمثلت ردود الفعل الدولية هذه، أولاً وقبل كل شيء، في تقديم مساعدات إنسانية طارئة في شكل توفير طعام ومأوى وتوطين مؤقت. وقد أسهمت دول من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك روسيا، في مثل هذه الجهود.

ومع ذلك، تمخضت أزمات اللاجئين عن حلول مؤسسية أكثر ديمومة. في الواقع، كانت الأحداث في روسيا وشرق ووسط أوروبا الدافع المحرك للسياسيين والدبلوماسيين نحو إقرار بعض إجراءات الحماية الرسمية للاجئين. وقد دفعت الثورة الروسية والحرب الأهلية التي أعقبتها عصبة الأمم إلى إنشاء مكتب المفوض السامي لشؤون اللاجئين عام 1921، أول مؤسسة دولية تدعم اللاجئين.

جدير بالذكر أن مثل هذه الترتيبات لم تكن عالمية، ذلك أنها في واقع الأمر لم تفعل شيئاً يذكر لضحايا فاشية ما بين الحربين العالميتين، أو اللاجئين غير الأوروبيين، مثل الإثيوبيين الذين عانوا على أيدي الاحتلال الإيطالي عام 1935. ومع ذلك، فإنها كانت تشكل نهجاً جديداً. داخل أوروبا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، جرى إمداد ما يقرب من مليوني لاجئ روسي وأرمني بوثائق سفر ومنظمة كان باستطاعتهم اللجوء إليها سعياً للاعتراف بحقوقهم الأساسية وحمايتها.

ودفعت تداعيات الحرب العالمية الثانية إلى ابتكار مؤسسي آخر، كان يهدف بشكل أساسي لدعم ضحايا النازية الذين جرى تجنيدهم قسراً من أوروبا الشرقية المحتلة خلال الحرب. وعندما رفضت أعداد كبيرة عام 1946 (بينهم كثير من الأوكرانيين والبولنديين وأبناء شعوب البلطيق) العودة إلى ديارهم الأصلية التي أصبحت الآن تحت القبضة القوية للشيوعية، أنشأت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا منظمة دولية للاجئين لحماية ومساعدة الأفراد الذين ادعوا «أساساً موثوقاً للخوف من الاضطهاد». وبعد خمس سنوات، أنشئت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي إلى جانب اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين عام 1951، تلزم الدول الموقعة عليها عدم إعادة اللاجئين إلى بلدانهم الأصلية ضد إرادتهم، ويظل هذا المبدأ حجر الزاوية في جهود الحماية الدولية للاجئين.

ومع هذا، يبقى هذا الوضع بعيداً عن الكمال بالطبع، وذلك لسبب واحد هو أن الاتفاقية تنطبق فقط على الأشخاص الذين عبروا الحدود الدولية، الأمر الذي يمنع فعلياً المشردين داخلياً أو أولئك الذين لا يستطيعون مغادرة منازلهم، من الحماية القانونية الدولية. علاوة على ذلك، أدى التركيز على الاضطهاد إلى تفسير ضيق للغاية لمن يمثل لاجئاً، خصوصاً عند مقارنته بالأحكام الأوسع للاتفاقية التي اعتمدتها منظمة الوحدة الأفريقية عام 1969.

وفي السنوات الأخيرة، تكشفت أوجه قصور شديدة في هيكل حماية اللاجئين. اليوم، يواجه ما يقرب من سبعة ملايين سوري فروا من الحرب الأهلية في البلاد، بجانب ما يقرب من ثلاثة ملايين لاجئ أفغاني – ناهيك بلاجئي الروهينغا من ميانمار واللاجئين في اليمن وجنوب السودان وأماكن أخرى – مشقة هائلة وتهديدات للحياة. ويبقى هؤلاء الأشخاص بعيدين عن أي مساعدة مؤسسية جوهرية فحسب، بل ويبقون في كثير من الأحيان بعيداً عن أعين وسائل الإعلام العالمية.

فيما يخص أوكرانيا، نجد أنه هذه المرة كانت الاستجابة مختلفة، فقد رحبت أوروبا إلى حد كبير بالأوكرانيين الهاربين من ويلات الحرب. ووافقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على منحهم الحق في العيش والعمل داخل التكتل الأوروبي، فضلاً على الوصول إلى الرعاية الاجتماعية والتعليم. ويعد هذا الاعتراف الفوري، بالطبع، موضع ترحيب عميق، وهو أكثر سخاء بشكل لافت مما هو متاح للسوريين وطالبي اللجوء الآخرين المسجونين داخل مخيمات قذرة في اليونان. كما أن الترحيب الدافئ باللاجئين الأوكرانيين يتناقض بشكل صارخ مع العداء العنصري الذي يتعرض له على الحدود الغربية لأوكرانيا الأفارقة والآسيويون الذين يحاولون الهروب من العنف المستعر في البلاد.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …