الرئيسية / مقالات رأي / الاستراتيجية العسكرية الألمانية الجديدة

الاستراتيجية العسكرية الألمانية الجديدة

بقلم: محمد خليفة – صحيفة “الخليج”


الشرق اليوم – للأزمات البشرية أسبابها العديدة؛ أبرزها: العسكرية والاقتصادية والطبيعية، وهناك أسباب أخرى لا تبدو ملموسة، على رأسها فقدان الرؤية التاريخية والحضارية، نتيجة قوة ورؤية العالم وهو يمر بالتبدلات والتحولات الفكرية والسياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية. وهذا ما أشار إليه الرئيس الأمريكي نيكسون في كتابه «Seize the Moment»، وقدم فيه تصوره للنقاط الأساسية التي ينبغي أن تستند إليها سياسة الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؛ حيث اقترح منهجاً لتنفيذ الاستراتيجية الأمريكية في كافة أقطار العالم؛ يقول: «إنه نظراً لمكانة ألمانيا الجيوبوليتيكية، فإنها تستطيع السيطرة على اقتصادات أوروبا، وكذلك على مؤسساتها السياسية والاقتصادية». ويضيف: «إن مشاركة الولايات المتحدة لألمانيا في التجارة والصناعة لا يحمي فقط المصالح الأمريكية، لكنه أيضاً يمنع المنادين إلى سياسة العزلة في أمريكا؛ لذلك يجب على ألمانيا أن تعيد تخطيط سياستها العسكرية، كي تتلاءم والأوضاع العالمية».
وها هي ألمانيا اليوم تسعى سعياً حثيثاً إلى بناء استراتيجيتها العسكرية، بعد أن أفرزت الحرب، الواقعة اليوم بين روسيا وأوكرانيا، التموضع الجيواستراتيجي الجديد لألمانيا؛ فهذه الدولة عانت هزيمة ساحقة في الحرب العالمية الثانية، وتم تقسيمها بين الدول الأربع المنتصرة «الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق وبريطانيا وفرنسا» ومن ثم أعاد المستشار الألماني الغربي هيلموت كول توحيدها عام 1989 بعد أن اشترى ألمانيا الشرقية من القيادة السوفييتية بمبلغ 15 مليار مارك، وقد تم حرمان ألمانيا من التسلح وبناء الجيوش، وسلخت مساحة واسعة من أراضيها، وفُرضت عليها عقوبات دائمة، خوفاً من «انبعاث عدوانيتها من جديد».
ألمانيا أصبحت بين عشية وضحاها، حرة في نزع كل تلك الأغلال التي طوقت عنقها عقوداً طويلة، ونزعت قناع الهيمنة والمسكنة الذي ضُرب عليها، وفاجأت العالم بتغير في سياساتها الأوروبية والدولية؛ حيث أعلن المستشار أولاف شولتس، في جلسة برلمانية طارئة عُقدت يوم 27 فبراير/ شباط 2022، عن تحوّل كبير في سياسة ألمانيا الخارجية والدفاعية وقال: «مع غزو أوكرانيا أصبحنا في حقبة جديدة». وشدد على ضرورة «إدراج بند الاستثمار في تعزيز قدرات الجيش الألماني في دستور البلاد».
هذا التحول لم يأتِ من فراغ؛ بل هو نتيجة لعجز الولايات المتحدة عن تحقيق الحماية المطلوبة لأوروبا، كما كان عليه الحال منذ انتهاء الحرب العالمية؛ حيث تمكنت الولايات المتحدة من تحقيق ردع استراتيجي حقيقي في وجه الاتحاد السوفييتي السابق، وتحقق ذلك عندما حاصر السوفييت برلين في يونيو/ حزيران عام 1948 من جميع الجهات، في محاولة منهم للحد من قدرة الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، على السفر إلى قطاعاتهم في تلك المدينة، التي كانت تقع داخل ألمانيا الشرقية التي يحتلها السوفييت. وأقامت الولايات المتحدة جسراً جوياً استمر لمدة عام، وتم عبره نقل الإمدادات الحيوية من غذاء ودواء إلى الألمان في الشطر الغربي، واقتنع السوفييت أخيراً أنه لا أمل لهم في تحقيق أهدافهم، ففكوا الحصار. وتم تثبيت خرائط الاشتباك، وتموضع كل طرف في قطاعه، لكن تراجع الولايات المتحدة، التي تحرك حلف الناتو من خلف الستار، عن نجدة أوكرانيا، وتركها لمصيرها أمام روسيا، أظهر أن فكرة الأمن الأطلسي الشامل لم تعد واقعية، وأن كل دولة أوروبية باتت معنية بالدفاع عن نفسها، ومن دون شك لم تتحرك ألمانيا ولم تفك قيودها من تلقاء نفسها؛ بل إنها فعلت ذلك بإرادة من الحليف الأمريكي.
لكن ما حظوظ ألمانيا في التحول إلى قوة عسكرية كبرى في أوروبا؟ في الواقع إن تغيير واقع ألمانيا، وانتقالها من موقع الدولة المقهورة والمقيدة إلى موقع الدولة المُحررة من كل قيد، سيفرض على فرنسا أن تعيد النظر في سياستها الأوروبية، لأن الخصم القديم والعدو التاريخي لها، قد خرج من قمقمه، وبات اليوم حراً طليق اليدين، وطالما أن هناك حياة ديمقراطية في ألمانيا، فإن تسلحها وتحولها إلى دولة ذات قدرات عسكرية كبيرة قد يوقعها من جديد في قبضة التيار اليميني الذي أعلن عن وجوده فيها من جديد فيما يُسمى «حزب البديل من أجل ألمانيا»، وهو نفس الحزب الاشتراكي الوطني الذي قاده هتلر، والذي أثار الحرب العظمى الماضية، فهل يثير يقظة ألمانيا عسكرياً حرباً دولية جديدة في أوروبا؟، إنه سؤال تاريخي، خاصة بعد تنامي التيارات اليمينية المتطرفة في عدد من الدول الأوروبية.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …