الرئيسية / مقالات رأي / الجبهة الداخلية التي تريدها الجزائر

الجبهة الداخلية التي تريدها الجزائر

بقلم: صابر بليدي – العرب اللندنية


الشرق اليوم – عاد الحديث في الجزائر مجددا عن الجبهة الداخلية وعن رص الصفوف من أجل مواجهة التطورات المحيطة بالبلاد والمستجدة في العالم. والمتابع للخطاب المتجدد يعتقد أن الخطر على الحدود، لكن هؤلاء لم يوضحوا أيّ جبهة داخلية وأيّ صفوف معنيان بالتماسك والتلاحم. هل تلك التي تدور في فلك السلطة، أم أن الجزائريين جميعا معنيون بذلك؟
عند اندلاع أحداث الربيع العربي، عام 2011، وسقوط بعض الأنظمة العربية، طفا على السطح خطاب من هذا القبيل. وكان الزعيم السابق لحزب جبهة التحرير الوطني، الحاكم حينها والموجود الآن في المنفى عمار سعداني، هو عرّاب وقاطرة الجبهة الوطنية لمواجهة الأخطار الخارجية. وأتذكر حين كان سعداني يجمع أنصاره وأتباعه والسابحين في فلك السلطة، في إحدى الصالات الكبرى بالعاصمة، من أجل الترويج لتلك الجبهة، بينما المعارضة السياسية تعقد ندوة لها غير بعيد عنها.
حينها كشفت معالم الخطة والاستفهامات الجوهرية عن حقيقة تلك الجبهة وذلك الخطاب، وكان من حق أبسط مواطن في الجزائر أن يتساءل، كيف يردّد خطاب الجبهة الداخلية ورص الصفوف، والموالاة تلتقي في مكان والمعارضة تلتئم في مكان آخر؟ وبدا واضحا أن المسألة هي محاولة للتجمع وشد الروابط، لحماية السلطة من رياح الربيع العربي، وليس حماية البلاد من مخاطر التفكيك والحروب الأهلية والأزمات المعقدة.
كان بمقدور عمار سعداني، آنذاك، أن يمتلك الجرأة السياسية ويدعو للجلوس إلى طاولة حوار موسع يشمل الجميع، بمن فيهم المجتمعون في ضاحية زرالدة في نفس اليوم الذي يجتمع فيه بأنصاره وأتباعه. حينها كان بالإمكان الحديث عن جبهة داخلية وصفوف متراصة.
نفس السيناريو يتكرر اليوم، مع فارق أن عمار سعداني متواجد في المنفى، فرارا بجلده من السلطة الجديدة في البلاد، وهو مدرك الآن حتما معنى التلاعب بالقيم والمبادئ الحقيقية والأساسية. ومثلما تجاهل هو أصحاب الحق في الجبهة المذكورة، يتم تجاهله اليوم، ليكتفي بمتابعة أخبار الجبهة الداخلية والصفوف المتراصة من منفاه.
صحيح أن الأزمات الخارجية والاختبارات القوية كفيلة بدفع الجميع إلى تقديم التنازلات من أجل طرف أو أطراف أخرى، حفاظا على وحدة الوطن وسلامته، لكن ما يحصل أن السلطة في الجزائر لم توفر فرصة إلا وعملت على توظيفها سياسيا من أجل الحفاظ على نفسها، بما في ذلك المخاطر المحدقة بالبلاد. وكأنما بها تعيد اليوم اكتشاف ارتدادات الأزمة الأوكرانية، أو التوتر المستفحل على الحدود الجنوبية.
وتعمل أذرع السلطة الجزائرية الجديدة على تجييش الرأي العام، كما عملت أذرع الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة على تجييشه من قبل، وكأنما في الجزائر لا توجد إلا سلطة حاكمة وأحزاب تدعمها وفواعل أهلية تشد أزرها معنية بخطاب الجبهة الداخلية والصفوف المتراصة، أما البقية الباقية فهي غير معنية بالأمر أو مشكوك في انتمائها، فخطاب الخيانة والعمالة بات يوزع ذات اليمين وذات الشمال.
الجبهة الداخلية، قبل أن تكون خطابا ديماغوجيا وشعبويا، وقبل أن تكون وسيلة للتقرب من السلطة وحمايتها، يجب أن تكون مع المعارضة السياسية والشعبية، خاصة بعد أن توسعت الفجوة بينها وبين المؤسسات الرسمية. ومع الحريات السياسية والإعلامية، حيث لم يعد بالإمكان التنفس بسبب سياسة القمع وتكميم الأفواه. ومع الشباب الذين فقدوا الأمل واسودت الدنيا أمام أعينهم، ولم يعودوا يجدون ملاذا لهم إلا في قارب خشبي يعبر بهم إلى الضفة الأخرى.
ما عدا ذلك لا يمكن لأبسط إنسان في الجزائر أن يهضم خطاب الجبهة الداخلية والصفوف المتراصة.
جربت شوائب وعوالق نظام بوتفليقة ذلك، وفشلت في مسعاها، لأنها ببساطة كانت تبحث عن جبهتها لحماية نفسها من شعبها قبل أن تحمي البلاد من مخاطر الربيع العربي. وها هي التجربة تتكرر مع شوائب وعوالق أخرى تريد إعادة نفس السيناريو، دون أن تدرك أن الشارع الذي أسقط السلف يمكن أن يسقط الخلف.
سلطة بأركانها المتكاملة لم تستطع إقناع الجزائريين لتزكيتها في أيّ من الاستحقاقات الانتخابية التي نظمتها ووجهتها، الأجدر بها أن تعود إلى هؤلاء لتستشف منهم الحقيقة وتسلّم لهم الأمر، وبعدها يمكن الحديث عن الجبهة الداخلية والصفوف المتراصة. فلم يحدث أن خاطب أيّ نظام سياسي ناجح معارضيه بـ”الخونة والعملاء”، حتى أصحاب السترات الصفراء الذي أحرقوا جادة الشانزليزيه في باريس، لم يتم نعتهم بتلك النعوت.
لا يمكن لأيّ رئيس دولة أو رئيس حكومة، أن يصمد أمام الضغوط والأخطار إلا إذا استند إلى شعبه. الشعب هو السند وهو الشرعية الوحيدة التي تزيد من ثقله في وجه العواصف.
ما يحدث اليوم في أوكرانيا دليل على ذلك. لقد سقطت مدن وعواصم عربية أمام محتليها وصمدت كييف في وجه الغزو الروسي.
مدن وعواصم عربية استقبلت الغزاة بالورود، ودخلها الوكلاء على ظهر الدبابات، بينما في كييف المقاومة مستمرة والمدنيون يتظاهرون أمام الجيش الروسي. الجبهة الداخلية أيضا تختلف في الحالتين؛ في الأولى كانت منعدمة لأسباب متعددة ومعروفة، وفي الثانية لا ورود ولا وكلاء؛ حتى الاختراق السياسي لنظام فولوديمير زيلينسكي لم يتحقق.
كانت التوقعات كلها تشير إلى أن روسيا ستدخل المدينة وتنتشر فيها من جانب لتخرج من الجانب الآخر خلال ساعات فقط من غزوها لأوكرانيا. لكن، في مواجهة الجبهة الداخلية والصفوف المتراصة، تشير المعطيات الحالية إلى أن “الدب الروسي وقع في المستنقع”.
لا ضير في أن نتعلم الدروس من تجارب الآخرين. من يريد أن يتحدث عن جبهة داخلية وصفوف متراصة، عليه أن يفتح الأبواب أمام الجميع لحماية البلد وليس لحماية السلطة، وكما يتداول الاجتماعيون في مصطلح الهدنة الاجتماعية بين الحكومات والنقابات، لا يضر الحديث عن هدنة سياسية في الجزائر يلتقي فيها الجميع ويتنازل من أجل البلاد. حينها فقط يمكن الكلام عن جبهة داخلية وصفوف متراصة.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …