بقلم: علي حمادة – النهار العربي
الشرق اليوم– عندما اجتاح الجيش الروسي الأراضي الأوكرانية في الرابع والعشرين من شهر شباط (فبراير) الفائت، كانت كل التقديرات التي رشحت من داخل القيادة الروسية في الكرملين تتحدث عن “عملية عسكرية تقنية” سريعة لن تتجاوز مدتها الأسبوع أو الأسبوعين قبل أن تحسم موسكو المعركة على الأرض من خلال اجتياح المدن الرئيسية، بما فيها العاصمة كييف التي كان مقدّراً أنها لن تصمد، أمام هول المفاجأة، وضخامة القوات العسكرية المنخرطة في العملية، فضلاً عن التقديرات الروسية التي أشيع أنها لم تحسب حساباً موضوعياً لقدرات الجيش الأوكراني، والتصميم على المقاومة، ومن ناحية أخرى لم تحسب حساباً لحقيقة الموقف الشعبي الأوكراني بشكل عام إزاء الاجتياح.
والحقيقة أن ما أصرّت موسكو على تسميتها “عملية عسكرية تقنية” تحولت الى حرب بكل ما للكلمة من معنى، ومن الواضح لجميع المراقبين لمسار الحرب، أنها لم تسر في الاتجاه الذي كان مقدّراً لها. وبالرغم من إصرار القيادة الروسية المستمر على أن “العملية” تسير كما هو مخطط لها، فإن الوقائع على الأرض دلت على العكس، إن لجهة حجم الخسائر التي تكبدتها القوات الروسية في كل المناطق، و لا سيما الشمالية والشرقية، أو لجهة لجوء الجيش الروسي إلى عمليات قصف واسعة للمدن الآهلة بالسكان من دون أي تمييز بين المدنيين والعسكريين.
هذه الطريقة في إدارة الحروب الروسية ذكّرت بحروب سابقة خاضها الجيش الروسي، من حربي الشيشان في نهاية القرن الماضي، إلى حرب جورجيا سنة 2008، ثم الحرب السورية بدءاً من سنة 2015. وقد تميزت هذه الحروب السابقة بمنسوب عال من القصف المروّع للمدن والقرى مما كان يؤدي الى ارتفاع كبير في عدد الضحايا المدنيين. هكذا تحولت الحرب في أوكرانيا من عملية أرادتها القيادة الروسية سريعة وحاسمة إلى حرب مدن وأرياف طاحنة غرق فيها الجيش الروسي إلى حد منعه من أن يحسم الصراع لمصلحته.
لن نتحدث عن نقاط الضعف والقصور التي أماطت هذه الحرب اللثام عنها، فهي عديدة، وأقلّ ما يقال فيها إنها كشفت ضعفاً بنيوياً في الماكينة العسكرية الروسية الضخمة. بالطبع لا يمكن لمراقب متابع إلا أن يأخذ في الاعتبار القوة النارية الهائلة للجيش الروسي، وحجم القوات والأعتدة التي يمكن الزج بها في ساحة المعركة لتأمين الانتصار النهائي. لكن السؤال المطروح لم يعد يتعلق بقدرة روسيا على الانتصار العسكري التقليدي، بل في ما إذا كانت موسكو قادرة على حماية الانتصار اذا حصلت مقاومة أوكرانية شرسة مدعومة من الغرب، مما يمكن أن يحوّل الانتصار الى هزيمة على غرار الهزيمة التي مني بها الاتحاد السوفياتي في أفغانستان في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. تلك هي المسألة. متى يمكن اعلان الانتصار من جهة أو أخرى؟ والسؤال هذا يستدعي سؤالاً أكثر أهمية في هذه اللحظة بالذات: ما هي استراتيجية الخروج من حرب قد لا يخرج منها منتصرٌ أكانت روسيا، أو أوكرانيا، أو حتى الغرب الذي يدفع أثماناً باهظة لمحاصرة الاستراتيجية التوسعية الروسية التي وضعها الرئيس فلاديمير بوتين.
بالنسبة إلى روسيا لا يبدو أن لديها حتى الآن استراتيجية خروج ربما لأن الخطة الأساسية لم تلحظ ما تلاها من رد فعل في أوكرانيا، أو الغرب عموماً. فأوكرانيا قاومت ولا تزال بقوة وفاعلية أساسهما الدعم الغربي ولا سيما الأميركي الكبير الذي حصلت عليه، فضلاً عن تنامي الشعور الوطني المقاوم في معظم أرجاء البلاد بوجه الاجتياح الروسي. كما أن الجيش الروسي الذي لم ينجح في حسم المعركة في الأيام الأولى، غرق في حرب دخلت حتى اليوم أسبوعها الثالث، من دون أن تتحقق إنجازات استراتيجية حاسمة تسمح له برفع راية النصر في بلد كان حتى الأمس القريب يعتبر ضعيفاً ولا قدرة له على الوقوف أكثر من بضعة أيام بوجه الماكينة الحربية الروسية. هذا لم يتحقق. ومن الواضح أن الحرب يمكن أن تطول أكثر مع ما تحمله من كلفة ميدانية على صعيد الخسائر في الجنود والمعدات والتشغيل اليومي.
في مكان آخر يجب تعيين رد الفعل الغربي من قبل حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي، باعتباره ردّ فعل تاريخياً لا سابق له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فتوحّد المواقف بين حلف الناتو والاتحاد الأوروبي لرفض الاجتياح، ومساعدة كييف على مقاومته بأشكال مختلفة، صعبت كثيراً مهمة القيادة الروسية التي أنزلت بها وبالبلاد عقوبات اقتصادية ومعنوية لا سابق لها في تاريخ العلاقات الدولية منذ 1945. وبالتالي فإن وضعنا العقوبات، والحصار السياسي، والمقاومة على الأرض، فإن الحسابات الروسية صعبة للغاية، الأمر الذي قد يدفع موسكو الى التصعيد اكثر، من أجل تحسين موقعها التفاوضي. ففي ظل ضبابية الموقف في الميدان، واحتمالات الفشل في انهاء الحرب لصالحها حتى لو استولت على المدن الكبرى، تذهب موسكو إلى مزيد من التصعيد، ربما لأنها لا تملك حتى الآن رؤية واضحة للمسار الدبلوماسي الذي يمكّنها من الخروج تحت شعار انها حققت أهدافها. هذه إشكالية كبيرة.
بالنسبة الى أوكرانيا، لا استراتيجية خروج حتى الآن يمكن أن تلاقي جزءاً من مطالب موسكو التي قدمت كذريعة للاجتياح. فتقديم التنازلات قبل وقف لإطلاق النار طويل الأمد غير ممكن فيما يقتل مئات المدنيين في المدن و البلدات. كما أن موسكو الغارقة في سوء إدارة العملية العسكرية، لم تقدم للجانب الأوكراني باباً لاطلاق مفاوضات سياسية جدية. فقد جاء اللقاء الأخير والوحيد بين وزيري الخارجية الروسي والأوكراني في تركيا مخيبا للآمال، حيث أنه بقي مجرد صورة لا أكثر. فهل ان الطرفين لا يزالان عاجزين عن الجلوس إلى طاولة مفاوضات لأسباب تتعلق من جهة موسكو بـ”صورة” روسيا الدولة العظمى التي لا تقبل أن تظهر بمظهر القوة المتعثرة على أبواب المدن والبلدات الأوكرانية، وتتعلق من جهة كييف برغبة القيادة الأوكرانية في البناء على ما أظهره الاجتياح الروسي من روح قومية، واعتزاز بهوية أوكرانية مستقلة تماماً عن الجارة الكبرى؟ فكل يوم يمر تتعزز الهوية القومية المستقلة بمواجهة نظرية الرئيس بوتين التي يعتبر من خلالها أن أوكرانيا لا تستحق أن تكون بلداً حقيقياً، وأن الأوكرانيين ليسوا سوى جزء من الشعب الروسي. إذاً فإن استمرار المقاومة وإمعان روسيا في تدمير المدن والمرافق المدنية، وارتفاع زعداد القتلى، بموازاة ارتفاع منسوب المقاومة الفاعلة يصب في صالح بناء الهوية المتنازع حولها بين موسكو وكييف. اذاً لا خروج سريعاً من دوامة الميدان الدامي.
بالنسبة إلى الغرب، يمكن الزعم بأن الرئيس بوتين نجح في أيام معدودة في إعادة الروح الى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاتحاد الأوروبي، وفي دفعهما الى ربط مشروعهما بالجانب الدفاعي الذي كان مغيباً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. عاد همّ الدفاع الى الواجهة (لا سيما في المانيا) بعدما دق الرئيس الروسي من حيث لا يدري جرس الإنذار الذي أحيا فكرة سياسة أوروبية – أطلسية دفاعية مشتركة. لم يكف قيام ألمانيا برفع موازنتها الدفاعية، بل الإعلان عن تبدل جذري في الرأي العام الفنلندي والسويدي لصالح الانضمام الى حلف شمال الأطلسي (الناتو). كما أن دعم الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي لأوكرانيا شكل وسيلة لضخ حيوية جدية لكلا التكتلين المتقاطعين ومن خلفهما الولايات المتحدة التي تحقق مكسباً كبيراً بسد ثغرة التسلل الروسي في البنية الأوروبية. ومع ذلك لا يملك الغرب استراتيجية خروج لأنه لا يستطيع أن يقدم حتى اللحظة جوائز ترضية للطرف الروسي.
الكل عالق في عنق الزجاجة. وروسيا تبحث عما يمكن أن تضفي عليه صفة الانتصار. أوكرانيا تبحث عن منع الانتصار الروسي وتعزيز الهوية الوطنية الأوكرانية، والغرب اقتنع أخيراً بأنّه لا يستطيع أن يسلم أمنه الاقتصادي من بوابة امدادات الطاقة لروسيا يحكمها رئيس يحلم بإعادة انتاج امبراطورية تزاوج بين القيصرية والسوفياتية التوسعيتين. اذاً استراتيجية الخروج مؤجلة بضعة أسابيع ريثما تتضح صورة الميدان من جهة، وتأثير العقوبات الهائلة من جهة أخرى. أما الحديث عن تصعيد روسي أبعد من أوكرانيا فقد يكون تكتيكاً روسياً في المرحلة المقبلة، على قاعدة رفع منسوب التصعيد بغية خفضه ثم الجلوس على طاولة المفاوضات!