بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم – اطلعت بدقة على مقال “القوة المطلقة” الذي كتبه غرايم وود في “الأتلانتيك” 3 آذار (مارس) 2022، وعلى المقال الذي كتبته كارين عطية ونشرته الواشنطن بوست في 6 آذار تحت عنوان: “تلميع مجلة الأتلانتيك لمحمد بن سلمان إهانة للصحافة”، والمقال الذي سارع وود لكتابته في 7 آذار في “الأتلانتيك” أيضاً، وتحت عنوان مطوّل: “بالطبع يجب على الصحفيين مقابلة المستبدين – أي شخص يخبرك بخلاف ذلك لا يفهم الغرض من الصحافة”.
الإعلام والسياسة.. المأزق الأخلاقي واحتكار الحقيقة
ولست أغالي هنا بالقول، بعدما قرأت كل ما سبق، أن حيزاً كبيراً من عالم السياسة اليوم، وخاصة ما يتم التركيز عليه في الإعلام، هو حيّز من التنافس الذي يغفل أحياناً القيم والمبادئ المهنية الناظمة للعمل الإعلامي، ويسلك الخائضون فيه طرقاً براغماتية وغير واضحة لتحقيق غايات معينة، دون أدنى اهتمام للنتائج السلبية التي قد تترتب على هذا الأمر. ولعمري فإن غياب هذه القيم والمبادئ وتجاهلها أحياناً لا يقتصر على الساسة فحسب، بل وعلى الإعلام الداعم لسياساتهم، والذي قد يضطر مهنيوه لسلك طرق محفوفة بالتضليل والتضحية برسالة الصحافة وغايتها في كشف الحقيقة، مقابل جذب المزيد من القراء والسعي للتأثير عليهم لمآرب خاصة مرتبطة بأجندات مؤسساتهم السياسية أو الإعلامية على حد سواء.
من قراءتي لهذه المقالات الثلاث تأكد لي من جديد أنه ثمة فجوة كبيرة ما زال من الصعب ردمها، بين ما يُنشر أحياناً في وسائل الإعلام الغربية وبين الحقيقة التي تدعي هذه الوسائل البحث عنها وتقديمها. ويا لها من مفارقة أن نظلم الصحافة العربية ونتهمها بالتردي وأنها أداة تعكس التطلعات السياسية للحكام العرب، بينما الصحافة الغربية مصابة أيضاً بلوثة طغيان الموقف السياسي والأجندات الخاصة التي تسيء للحقيقة ولحرية الكلمة في بعض الأحيان.
وفي هذا السياق، أعتقد أن أخطر ما تقوم به الماكينة الإعلامية عندما تتنازل عن مهنيتها، هو محاولة إيهام الآخرين بأنه ثمة حقيقة واحدة فقط، وأنها الوحيدة التي تمتلكها، لتعمل على تكريسها من جهة محددة وبلون واحد، وضمن سردية قيمية وأخلاقية من جهة نظر سارديها، لتستبعد بذلك أي رأي أو منظور مختلف مع وجهة نظرها. بينما واقع الأمر يوضح بجلاء أنه ليس ثمة حقيقة واحدة، وأن كل فرد أو جماعة أو أمة تقوم بتعيين حقائقها ضمن إطار وجودها، وعلى ما ينطوي عليه هذا الوجود من ثقافة وعادات وأعراف ومعتقدات. ولا أعتقد أنه ثمة خيانة للحقيقة أكبر من أن يتجنبها أو يخفيها الآخر أياً كان، فقط لأنها لا تتناسب مع منظومة معاييره واشتراطاته عنها، ثم يغلف هذا الرفض بأحكام متسرعة ومطلقة، ولا يقبل اختلاف الآخرين معه عليها.
لذلك.. ومن دافع إحقاق الحق، يتوجب علي القول إن الحديث الذي أدلى به الأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة العربية السعودية لصحيفة الأتلانتيك، والذي عليه يدور الجدل الإعلامي القائم في أمريكا اليوم، أهم من أن يُختصر أثره ومضامينه في هذا الجدل الدائر بسببه بين كل من غرايم وود (ممثل الأتلانتيك في الحوار مع ولي العهد) وكارين عطية وآخرين، وأدعو العرب عموماً والشعب السعودي المعني بالأمر خصوصاً، أن يولوا كلام ولي العهد العناية والاهتمام اللذين يستحقهما، وألا يلتفتوا لكل ما تحاول الصحافة الغربية ترويجه بتكريس حالة من الجدل والتنازع في الآراء. وسيبقى الصحيح أن “أهل مكة أدرى بشعابها”، وأن السعوديين والعرب مدركون تماماً لأهمية ما جاء في كلام ولي العهد من أفكار وتوضيحات واستراتيجيات. أما أهداف الإعلام الغربي من تناولها فلا تخدم سوى مصالح الداخل لدى الغرب، مثله في ذلك مثل أغلب سياساتهم الخارجية.
ومع أني لست أنكر أهمية منظومة القيم الديموقراطية والليبرالية الغربية، ولا أتحرج من التعبير عن الإعجاب بها في ما أكتبه، وعن تثمين نجاحها في بناء الدول والمجتمعات لديهم، إلا أنني متمسك أيضاً بموقف نقدي رافض لأحكام الغربيين ومعاييرهم في التعاطي معنا، عرباً ومسلمين، من خارج هذه المنظومة، وخاصة في إصرارهم على أن ما يصلح لهم يصلح لغيرهم، وأن ما لا يتفق مع أهوائهم لا يستحق اهتمامهم واعترافهم. وسأبين في ما يأتي، وبتفصيل وتوضيح مركزين، ما اعتبره المنظور الغربي ديكتاتورية واستبداداً من كلام ولي العهد.
حديث بأهمية الحرب!
بداية.. ورغم الاستقطاب الشديد الذي شدّ انتباه العالم وتركيزه على ما تشهده الساحة السياسية اليوم نتيجة الحرب الدائرة في قلب أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، والتي جعلت كل ما عداها من الأحداث والأخبار مجرد هوامش وتفاصيل غير مهمة، فإن حديث ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لصحيفة أتلانتيك الأمريكية (نشرت وكالة الأنباء السعودية النسخة العربية منه وسيُنشر النص الأصلي مطلع أبريل/ نيسان القادم) استطاع أن يستقطب إليه انتباه المتابعين والمحللين، والسياسيين أيضاً، لما اشتمل عليه من نقاط تطرق لها الأمير الشاب، وتصريحات ستمثل بوصلة مهمة للشأن الداخلي السعودي، ولعلاقات الرياض الإقليمية والدولية على صُعُد متعددة: التغيير الداخلي، والسياسية الخارجية، والأبعاد الاقتصادية والأمنية في المنطقة. جاء الحديث كما – يبدو – حواراً مفتوحاً لم يُطلع فيه المُحاور (غرايم وود) مستضيفه على الأسئلة مسبقاً، ولم يكن لدى الأمير أية نقاط محددة تم الإعداد لها من قبل، كانت بعض الأسئلة واضحة، بل ومستفزة أحياناً، وبعضها الآخر غامض وغير متوقع، بالإضافة لمجموعة أخرى من الأسئلة التي فرضتها شجون الحديث وتشعباته أو التي استنتجها صحفي الأتلانتيك، من الحديث مع الأمير أو أراد إقحامه فيها.
أمام هذا التنوع في الأسئلة ومستوياتها وأهدافها والتفاصيل الدقيقة التي تبحث عنها، وأمام الصراحة والشفافية، إضافة للأريحية، التي أبداها ولي العهد السعودي، برزت أهمية الموضوعات التي تضمنها الحوار بنفس أهمية طريقة تناولها، فكان على رأس هذه الموضوعات: الإصلاح في السعودية بمستوياته المتعددة، مكافحة الفساد، والتطوير الاجتماعي، والإصلاح الديني والعودة للإسلام السمح؛ بالإضافة إلى الاقتصاد السعودي الجديد وهويته المحلية؛ علاقات السعودية الدولية مع الدول والقوى إقليماً وعالمياً؛ وبالطبع احتل مشروع “رؤية 2030” حصة وازنة من حديث الأمير، بعدما أصبحت هذه الرؤية بمثابة وثيقة العقد الاجتماعي الجديد الذي يتطلع السعوديون من خلاله إلى المستقبل الذي يطمحون إلى بناء قواعده على أسس الأصالة والقيم الوطنية، ثم الارتقاء منها إلى قلب الحداثة والمعاصرة. لذلك بدا الأمير حاسماً وواضحاً في التأكيد على أن مشروع “رؤية 2030” “لن يفشل أبداً، ولا يوجد شخص على هذا الكوكب يمتلك القوة لإفشاله”.
في ربيع عام 2016 أعلن الأمير الشاب عن إطلاق هذا المشروع الضخم، الهادف قبل كل شيء إلى تخفيض اعتماد المملكة على النفط، والذي يشترط بداية تنويع مصادر الاقتصاد السعودي بإضافة قطاعات فاعلة ومنتجة إليه، ليس آخرها بناء السياحة والترفيه، وتأسيس المدن “المستقبلية” الذكية. ولقد واجه هذا المشروع، منذ أن طُرح للمرة الأولى، الكثير من الجدل، والكثير من التشكيك المدفوع أحياناً بسوء النيّة! أو ربما بسوء التقدير عندما ظنّه البعض خيالياً وغير قابل للتحقق في ظلِّ واقع المملكة وإرثها التاريخي المعقّد والكبير، دون أن يدركوا أن هذا الواقع نفسه هو ما يمنح السعودية مجموعة ثرّة ومميزة من نقاط القوة التي لا تتوفر لغيرها من الدول، إذ تمثل هذه النقاط بالتحديد مصادر الفلسفة التي استندت إليها “رؤية 2030” وانطلقت منها، والتي يأتي على رأسها الموقع الاستراتيجي للمملكة، وعمقها العربي ومكانتها الدينية العالمية، والغنى الاجتماعي والثقافي، وبالطبع القوة الاقتصادية.. وغيرها. ولقد أوجزت “الرؤية” هذه النقاط بثلاث ركائز هي: مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح.
بالنسبة للرجل الثاني في المملكة، ولشاب في مجتمع تبلغ نسبة مواطنيه ممن لم يتجاوزوا الأربعين عاماً قرابة 70%، كان لا بد أن تتسم الرؤية التي تبناها، كخطة إصلاحية وتنموية، للدولة العربية الأكبر آسيوياً، بالشمولية التي باتت الشرط اللازم والضروري لإدارة الدولة الحديثة، فدولة اليوم ليست مجرد سلطة أو قوة محضة أو وفرة في الثروات والإنتاج، بل هي كل هذه العناصر مجتمعة ومترابطة بين بعضها البعض في الفضاءات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي يحقق فيها المواطنون إرادتهم العامة التي يكفلها ويصونها لهم وجود الدولة.
الاقتصاد في رؤية 2030
يمثل النمو الاقتصادي المنافس هدفاً محورياً ضامناً لمشروعية الأهداف الأخرى وتحققها، لذلك كان الهدف المركزي لـ “رؤية 2030” تغيير البنية الكلاسيكية للاقتصاد السعودي، عبر السعي بخطوات حثيثة نحو تقليص نسبة الصادرات السعودية من النفط إلى 50%، والتي لن تتحقق إلا برفع حجم الصادرات غير النفطية إلى النسبة ذاتها. وتدرك القيادة السعودية اليوم أن الآثار المترتبة على تحقيق هذا الأمر لا تقف عند حدود إنماء الناتج المحلي فحسب، بل سينعكس بشكل واضح على تقليص نسبة البطالة، ورفع ترتيب المملكة في مؤشر الخدمات اللوجستية من المركز 49 إلى 25 عالمياً، والأول إقليمياً. كما سيسهم ذلك أيضاً -حسب ما تعد به الرؤية- بإحداث نقلة نوعية في طريقة إدارة الدولة للاحتياطات الأجنبية وتوظيفها في زيادة العوائد منها. وفي الحقيقة فإن من يعرف الاقتصاد السعودي عن قرب يدرك تماماً أن تقليص اعتمادية المملكة على النفط إلى النسبة الواردة أعلاه سيمثل ثورة تجديد وتغيير اقتصادي طال انتظارها والحديث عنها خلال العقود الثلاثة الماضية.
هدفت “رؤية 2030” من الناحية الاقتصادية أيضاً إلى توسيع الوصول إلى الرهون العقارية بالتزامن مع تطوير قطاع خدمات مالية يسهل الوصول إليه والاستفادة منه، وذلك عبر تشجيع المواطنين على الاستثمار داخلياً، وزيادة عدد الشركات المدرجة في البورصة المحلية. وكما كان متوقعا، لم يضيّع السعوديون هذه الفرصة، فقد باعت بنوك المملكة رقماً قياسياً من الرهون العقارية الجديدة بلغ 46.7 مليار ريال في الربع الأول من 2021، وتتوقع وكالة التصنيف الائتماني الأمريكية S&P Global Ratings أن يرتفع سوق الرهن العقاري السعودي بنسبة 30% سنوياً خلال العامين المقبلين.
في جانب آخر، واستكمالاً لهذه الاستراتيجيات الاقتصادية الجديدة، كان لا بد من الشروع في تحويل مفهوم الدولة من كونها الراعية والمتدخلة اقتصادياً إلى تثبيت دورها كحارسة وضابطة، والذي يستوجب مستقبلاً تقليص القطاعات العامة المعنية بالشق الخدمي، ومن المتوقع أن يبدأ هذا التقليص من قطاع الطاقة، عبر خصخصة شركة الكهرباء الوطنية السعودية، والتوجه نحو توليد ما لا يقل عن 30% من إمدادات الطاقة المحلية للبلاد من الطاقة الشمسية والمتجددة. تحولٌ إذا ما تم سيرفع عدد منتجي الطاقة المستقلين وسيخلق سوقاً أكثر تنافسية لأنواع مختلفة من الطاقة المتجددة. ورغم أن هذه النقلة، بحسب ما تشير إليه تقارير ودراسات صحفية، ستكون مؤلمة في البداية للسعوديين الذين اعتادوا على أسعار الطاقة المنخفضة، إلا أنها ستساعد على تحقيق هدف 2060 من الانبعاثات الصافية الصفرية.
الحوكمة والتطوير الإداري
في عموم حديثه لصحيفة الأتلانتيك، يتنبه القارئ للأهمية التي يوليها ولي العهد للتطوير والإصلاح الإداري، خاصة في ظل التغير النوعي، الواثق والمتأني، الذي يقوده في البلاد. ومع أن الأمير لم يتناول هذا الموضوع بشكل مخصص ومستقل، بل كانت الإشارة إليه حاضرة في مناقشة عدة مواضيع، فإن ذلك يعكس انطلاق مشروع ولي العهد في الإصلاح الإداري وتطوير آليات الحوكمة من أهمية تحقق هذا الشرط لضمان تحقيق المستويات المنشودة من النمو الاقتصادي، إذ إن مكافحة الفساد وتطوير القوانين وتبسيط الإجراءات وتوفير الضمانات القانونية والحقوقية عناصر بات لا يمكن تجاهلها لإعداد بيئة اقتصادية جاذبة للمستثمرين، خاصة في عصرنا الحالي، حيث لا يمكن تحقيق نمو اقتصادي ريادي إلا بمشاركة الاستثمارات الأجنبية وتوطين أصولها محلياً.
لذلك تتوجه اهتمامات الأمير نحو تعزيز الكفاءة داخل الحكومة، وتحديث أدوات الإدارة العامة، عبر عملية إصلاح هيكلية شاملة. وإذ يدرك الأمير صعوبة الإسراع في تحقيق هذه الأهداف، خاصة في ظل البنى التقليدية التي سيطرت على العمل الإداري للدولة خلال عقود، إلا أن رضاه واطمئنانه لما تم تحقيقه حتى الآن يبدو مؤشراً على إمكانية الوصول للمستوى المطلوب في هذا الشأن، وبوقت قياسي نسبياً. ولم يفت الأمير أن يشيد بجهود موظفي المملكة ومسؤوليها، ويثمّن حماسهم وقيادتهم لهذا التغيير، كل في موقعه وبناء على مسؤولياته.
السياحة والترفيه.. فهم أعمق للتنمية الشاملة
خلال الخمسة أعوام الماضية، ركّزت بعض النظرات المبتسرة والمنقوصة لجهود المملكة في مجالي الترفيه والسياحة الداخلية على إعلان الدهشة أحياناً، والاستنكار المتصنع أحياناً أخرى، بناء على أحكام مسبقة أو صورة نمطية “ستريوتايب” عن السعودية باعتبارها، في أذهان مروجي هذه النظرة، بعيدة عن الحداثة والمعاصرة، أو على اعتبار أن المكانة الدينية للمملكة تفترض أن يعيش السعوديون جميعاً، وعلى كافة أراضي البلاد الممتدة واسعاً في الاتجاهات الأربعة، نمطاً خاصاً ومنغلقاً من الحياة يقتصر على الزهد والتعبد والعزلة و”بعض التطرف!”. وفي الحقيقة فإني لا أبرّئ نوايا الكثيرين الذين يحاولون تكريس هذه النظرة، ولا أعذرهم لجهلهم في حال ادعوا الجهل بالمجتمع السعودي وأسلوب عيشه وانفتاحه على العالم. أقول هذا الكلام وأنا واثق منه لأني أعرف السعوديين حق المعرفة، إذ عشت بينهم في ما مضى عدة سنوات، ولا تكاد زياراتي تنقطع عن البلاد، إما بقصد العمل أو بهدف السياحة، وفي كل زيارة ألمح مقدار التغير والتطور لدى عموم فئات المجتمع، فالسعوديون ومنذ عقود لم ينقطعوا عن الاتصال بالخارج الأكثر تطوراً في العالم، وعدد كبير من شبانهم وشاباتهم أكمل تعليمه في كبرى الجامعات العالمية، وتحديداً الأمريكية والبريطانية، وهم متقنون للغات الأجنبية، ومطلعون على روح الحضارة الغربية، وقادرون على الخوض في تفاصيلها، وتكوين موقف نقدي -سلباً أو إيجاباً- منها. وهؤلاء الذين يمثلون نسبة كبيرة من المجتمع السعودي يدعمون تطلعات ولي العهد ورؤية 2030، ويثقون بالمستقبل الواعد الذي ينتظر البلاد في ظل تحقيقها.
وفي الحقيقة.. وكما لمست من الحوار مع “الأتلانتيك”، يعرف الأمير هذه الفجوة القائمة التي تصنع التناقض بين طرفين: الصورة المسبقة والنمطية عن المجتمع السعودي، وواقعه الحيوي والعصري، والذي يُعتبر ركيزة أساسية من ركائز “رؤية 2030”. كما يدرك الأمير أن جزءاً من أسباب حدوث هذه الفجوة يعود لظروف واعتبارات رافقت تأسيس الدولة السعودية الثالثة، والتي ارتبطت “عصبية تأسيسها” (وأستعير هذا المصطلح من ابن خلدون ومقدمته الشهيرة) بالتحالف الذي عقده الملك المؤسس مع التيار الديني الإصلاحي في عصره، ثم استمر تقليداً طيلة عقود حكم الأبناء، “ربما يكون هذا الوضع قد استمر لفترة أطول مما ينبغي، ولكن يجب إعادة إصلاحه”، هكذا يفكر الأمير الشاب في ظل تغير الزمان بعد مرور قرن وعقدين على نجاح جده الملك عبد العزيز رحمه الله في استعادة الرياض وإطلاق مشروع الدولة السعودية الثالثة سنة 1902.
من ناحية ثانية، لا يغيب عن فكر ولي العهد أن جوهر 2030 اقتصادي بحت، وأن في السعودية منبعاً آخر إلى جانب البترول ينبغي الالتفات إليه كمصدر أكثر استدامة للدخل القومي. هذا المصدر هو السياحة التي أُهملت طويلاً في بلد قادر أن يجتذب إليه ملايين السياح سنوياً، بما يمتلكه من مواقع أثرية وطبيعة فريدة وشواطئ مثالية ومناخ معتدل في الفترات التي يضرب فيها الصقيع النصف الشمالي من الكرة الأرضية. إذن ثمة عنصر واحد باق كي تتمكن المملكة من استثمار هذا المصدر، أقصد إعداد البنية التحتية من مدن ومرافق سياحية، ثم تقديم التسهيلات الإدارية المطلوبة لمعاملات السفر وتعليمات الإقامة السياحية وتحديث قوانينها. ولا يخفى على أحد اليوم طموح قيادة المملكة في هذا المجال، وعملها على مضاعفة تسجيل المواقع الأثرية في منظمة اليونيسكو، وسعيها لإنشاء متحف إسلامي سيكون الأكبر على مستوى العالم.
أما في الحديث عن هيئة الترفيه، فلا يولي ولي العهد أي اهتمام لكل الآراء التي تتصنع الدهشة والاستنكار، ومع أنه يدرك دوافع من يقف وراءها، إلا أن الجانب الاقتصادي هو ما يركز عليه في هذا الشأن، خاصة وأنه مطلع على الإحصاءات التي ترصد ما يدفعه السعوديون في الخارج لأغراض السياحة والترفيه كل عام، ويؤمن تماماً بأحقية السعودية في المبالغ التي ينفقها مواطنوها، والتي تعادل ميزانيات دول قائمة، وتتجاوزها أحياناً (بلغت حوالي 30 مليار دولار). لذلك.. استحق الأمر في نظر ولي العهد أن يأتي العالم ليشاهده السعوديون بدل أن يسافروا كل عام لمشاهدته.
ثورة اجتماعية مبصرة
على عكس الثورات الاجتماعية التي عادة ما تكون عمياء وجامحة، والتي تركز على تدمير ما لا تريده ولكنها تجهل ما تريده، يقود ولي العهد البلاد لتغيير اجتماعي كبير، مدعوم برؤية واضحة عما يريده السعوديون ويسعون إليه، دون أن يدمروا أياً من اللبنات الاجتماعية السابقة، بل ينبغي البناء عليها لتبقى حاضرة في هوية وطنية متجددة، تجمع في نواتها طرفي الأصالة والمعاصرة. لذلك تعددت تأكيدات الأمير الشاب على أن التغيير الذي ينشده السعوديون إنما ينشدونه لأجلهم هم، وليكونوا راضين عن أنفسهم ودورهم الحضاري، لا لكي يُرضوا مراقباً خارجياً، أو يوافقوا معياراً يعتمده غيرهم. ولذلك يشدد ولي العهد على أن التغيرات الاجتماعية ستبقى أمينة لثقافة البلاد، والتي تستمد حيويتها وقيمها من جذورها الثلاث: الإسلام والأعراف القبلية والحضارة العربية. مقابل هذا.. يستنكر الأمير أي ضغط خارجي على السعودية باتجاه التغيير، ويلفت انتباه ضيفه صراحة: “في الحقيقة، إذا حاولت الضغط علينا بخصوص شيء نؤمن به بالفعل، فأنت فقط تصعب علينا تنفيذه”.
ويأتي في هذا السياق تطوير قانون الأحوال الشخصية، حديث الساعة لدى السعوديين اليوم، والذي وافق مجلس الوزراء على إقراره بتاريخ 8 آذار (مارس) 2022، هذا القانون الذي كشف ولي العهد عن أهميته في الحفاظ على الأسرة باعتبارها المكوّن الأساسي للمجتمع، والتزامه بشرعة حقوق الإنسان وقيمها، بالإضافة إلى تأكيد هيئة أعضاء كبار العلماء على أن نظام الأحوال الشخصية الجديدة “مستنبط من الكتاب والسنة، ومبني على أسس وثيقة، ومبادئ سامية، وتشريعات منظمة، جاءت لتؤكد عمق القانون في المملكة وقوته وحجيته، وحصانة إجراءات التقاضي بما يحقق الأمان المجتمعي والاستقرار الأسري”.
وفي الحقيقة أيضاً.. لقد شرعت المملكة بالفعل في تنفيذ سلسلة من المشروعات العملاقة لخلق مجتمع منفتح متسامح يتطلع للمستقبل، ويستند في الوقت ذاته إلى تراثه وماضيه العريق. ولمساندة الجهود المبذولة في تنفيذ إصلاحات اجتماعية وتشريعية شاملة، تعمل الحكومة على دعم فاعلية هذه الإصلاحات من خلال تعزيز الشفافية والمساءلة وتحسينهما بهدف تحقيق تطلعات الوطن الطموح وقيادته ومواطنيه بالدرجة الأولى.
وبالفعل بدأت نتائج هذه العملية الإصلاحية بالظهور في مجالات مختلفة، إذ بدأت المواطنات مثلاً بالاضطلاع بأدوار جديدة في سوق العمل، وتحسنت مشاركتهن في الحراك الاقتصادي في جميع أنحاء البلاد. لقد ارتفعت نسبة النساء العاملات في المملكة من 15% عام 2018، إلى 25% عام 2021، بحسب مجلة فورين أفيرز الأمريكية، والتي أضافت أن اتجاهاً مماثلاً يظهر في بقية التركيبة السكانية، حيث زاد معدل المشاركة في القوى العاملة بين الرجال (20 – 24 عاماً) بنسبة 15% عن عام 2018 ليبلغ نحو 55% نهاية عام 2021.
إذن فرؤية 2030 لا تقتصر على الجانب الاقتصادي وحده، بل تتضمن إيجاد درجة عالية من التحرر الاجتماعي لتمكين نمو صناعات الترفيه والسياحة، وكذلك إصلاحات واسعة النطاق لنظام التعليم، والذي يُعد تقليدياً معقلاً لرجال الدين في المملكة العربية السعودية، ولذلك لا أستبعد أن يخطو نظام التعليم السعودي في القريب العاجل خطوة مهمة طال انتظارها، ألا وهي إدخال الدراسات الفلسفية في المراحل التعليمية الجامعية، وما قبل الجامعية أيضاً، خاصة وأن المثقف السعودي بات يدرك اليوم أهمية الفلسفة ودورها المركزي الذي لا يمكن تجاهله أو استبداله، في التشجيع على الفكر النقدي وتنمية التفكير الإبداعي في كافة حقول المعرفة والسلوك: الاجتماعية والعلمية والسياسية والاقتصادية والفنية.
الإصلاح الديني.. أين يبدأ التغيير؟
تطرق الأمير ضمن حديثه إلى الصحيفة لمسائل وتفصيلات دينية وتشريعية تثير الدهشة، إلا أني سأقف على أهم المنطلقات التي يؤسس عليها الأمير الموقف الرسمي من الإصلاح الديني الذي تحتاجه المملكة اليوم.
أولا، يعبّر الأمير عن موقف نقدي واضح فيما يخص مفهوم “الإسلام المعتدل”، ويرفض أن تتبنى السعودية هذا المصطلح، فيقول بأسلوب بلاغي يغمز من جهة التطرف الديني وأنصاره: “هذا سيجعل المتطرفين والإرهابيين سعيدين، إنها أخبار جيدة لهم إذا استخدمنا ذلك المصطلح، لأن ذلك قد يوحي أن السعودية والبلدان الأخرى يقومون بتغيير الإسلام إلى شيء جديد”. وفي المقابل يتبنى الأمير الموقف الأكثر إنصافاً للحق، والذي مفاده أن الدين الإسلامي واحد في الجوهر لا يمكن تغييره، ليس فيه إسلام معتدل وآخر متطرف وثالث مفرط.
ثانياً، يُستدل من كلام الأمير على أن الإصلاح المنشود هو إصلاح فهمنا نحن للإسلام، ولا يجوز لأحد أن يغيير الإسلام إلى معتدل أو غير معتدل، وبحسب كلام ولي العهد: “نحن نرجع إلى تعاليم الإسلام الحقيقية، التي عاش بها الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الأربعة الراشدون”، وفي الحقيقة فإن كلام الأمير هذا يتطابق في الجوهر مع المبادئ الأساسية التي قام عليها مشروع الإصلاح الديني نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وذلك قبل أن ينجرف به المتطرفون نحو تعميق الفجوة بين الدين والمجتمع.
ثالثاً، وبناء على ما سبق.. يظهر الأمير موقفاً حازماً من دعاة التطرف والإرهاب، لأنهم قاموا باختطاف الدين الإسلامي، وحرّفوه بحسب مصالحهم، وحاولوا أن يفرضوا على عامة المسلمين طريقتهم. وهذا خطر لا يهدد العقيدة فحسب، وإلا يمكن حينها أن يُترك المتطرفون ورأيهم، بل يهدد الفرد والمجتمع والإنسانية بالعموم. لذلك حرص الأمير على أن لا يبدي أي موقف ليّن أو متهاون مع التطرف، على العكس تماماً مما يقوم به سياسيون كثر في المنطقة.
وفي العموم.. لا تعكس وجهة نظر ولي العهد في الإصلاح الديني موقف الباحث المشغول بالقضايا والتفصيلات الفكرية رغم اطلاعه عليها، بل موقف القائد السياسي والوطني الذي ينصب جهده على الاستراتيجيات العامة لما ينبغي أن يكون عليه هذا الإصلاح، ويدرك تماماً المسؤولية الشرعية المناطة بولي الأمر ومن ينوب عنه في هذا الشأن، فولي أمر الدولة هو رأس المؤسسة الإسلامية بحسب تعبيره، أما مجالس الإفتاء فمهمتها تقديم المشورة وترك القرار النهائي لصاحب الأمر، هذا ما أقرته تعاليم الإسلام وبايع عليه الناس. وهذا ما أراد الأمير إيضاحه بشكل لا لبس فيه.
الموقف من نظام الحكم.. صراحة وطمأنينة
يشيد الأمير بالديموقراطية الأمريكية، ويقدر كم هي رائعة (للأميركان) لأنها كانت من أسباب تطور أمريكا وقوتها الاقتصادية العالمية. وعلى المنوال نفسه يمتدح ولي العهد الأنظمة الدستورية الملكية الناجحة، والتي يُقاس نجاحها بما تقدمه لشعوبها من نمو وتحضّر. ثم وبذات الثقة والطمأنينة، يجيب ولي العهد على سؤال محاوره حول نظام الحكم الملكي للدولة السعودية، ويؤكد أن الملكية السعودية مطلقة، “هكذا تأسست وهكذا صنعت مجتمعنا”، وهذا أيضاً نظام رائع بالنسبة للدولة والمجتمع، لأنه صنع الحضارة والنمو الذي تشهده البلاد اليوم.
وفي الوقت ذاته، يوضح ولي العهد الأحكام والأعراف والتقاليد الضابطة لهذا النظام. فالملكية المطلقة لا تعني أن الملك “يستيقظ غداً ويفعل ما يحلو له” بحسب تعبيره، بل ثمة نظام أساسي للحكم يحدد طريقة إدارة شؤون البلاد، وينص بشكل واضح على وجود ثلاث سلطات: التنفيذية التي يقودها الملك بصفته رئيساً للوزراء، والتنظيمية والقضائية المستقلتين عن السلطة التنفيذية. ويوضح الأمير لضيفه هذا الأمر مستشهداً بأن الإرادة الملكية بالسماح للمرأة بقيادة السيارات توافرت منذ العام 2015، لكن ذلك لم يتحقق فعلياً إلا في عام 2017، فالملك وجميع السلطات تعمل ضمن قوانين ثابتة، ووفقاً لما يقره النظام الأساسي للحكم، وأمام الشعب.
يدلي الأمير ببعض الملاحظات المهمة في السياق ذاته، فهو إذ يقدر أهمية الملكية الدستورية وأي نظام سياسي آخر يخدم المجتمع القائم فيه، فإنه يبين في الوقت نفسه أن الملكية الدستورية لا تصلح للسعودية ولا تناسبها، وهذا لا يعود لحكمه الشخصي على الأمر، بل للواقع الموضوعي الذي أوجده تاريخ السعودية وبُناها الاجتماعية القبلية وثقافتها الإسلامية، فنظام الحكم الملكي هذا يمتد لستمئة سنة، وعلى فترات ثلاث، والمجتمع السعودي يتكون من قبائل وعشائر وبلدات محلية متفقة جميعها على هذا النظام، ومثلهم أفراد الأسرة المالكة، والذين يُعدون بالآلاف، ومنهم تتشكل هيئة البيعة بأعضائها الذين يضعون ثقتهم بالملك وولي عهده للحفاظ على المملكة ونظامها، لذلك فإن أي خطوة بغير هذا الاتجاه تعتبر خيانة لهيئة البيعة والأسرة والشعب.
وعلى هذا.. يؤكد الأمير ما للنظام الملكي السعودي من سمات تميّزه عن الأنظمة الملكية المطلقة التي عرفتها أوروبا، وينفي أن يكون هناك دماء ملكية، فالأسرة الملكية كالشعب، وأفرادها يتزوجون من عامة الشعب، هم فقط مسؤولون عنه، ويعملون لخدمته، ويحافظون على وحدته.
“رؤية 2030”.. جدل الأصالة والمعاصرة
إن كل ما حققته “رؤية 2030” حتى الآن، وما ستحققه خلال السنوات القريبة القادمة، سيكون له أثره الواضح في تغيير شكل العلاقات بين الدولة ومواطنيها، سياسياً واجتماعياً وكذلك اقتصادياً، كما سيغير في الوقت ذاته طبيعة الشراكة بين الحكومة ورجال الدين، إذ لا يبدو أن لدى ولي العهد أي نية للتهاون مع كل من يفتح الباب أمام التطرف والمتطرفين الذين “اختطفوا الدين الإسلامي وحرفوه”. ولا ينطلق موقف الأمير هذا من بنية عقائدية فحسب، بل ووطنية أيضاً، إذ إن “روح” الدولة السعودية قائمة على الإسلام جنباً إلى جنب مع العروبة والنظام الاجتماعي القبلي.
وعلى الركائز الأساسية الثلاث (مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح) لا يريد الأمير “المحدّث” أن يُقدِّم، والسعوديون معه، “مشاريع منسوخة من أماكن أخرى، بل نريد أن نضيف شيئاً جديداً للعالم”، شيئاً سعودياً خالصاً آن أوان تحقيقه.
ولأن الأمير يدرك أن الوصول لهذا الهدف النهائي -والناظم لكل ما دونه من أهداف- أمر لا يعتمد على السياسات الداخلية في المملكة وحسب، بل أيضاً على ما يحيط بها، وعلى علاقاتها وأدوارها في الإقليم وما بعده. فلدى السعودية طموحاتها العالمية التي لن تتحقق إلا بالانطلاق من أرضية ثابتة قوامها مجتمع شرق أوسطي مستقر وآمن، الأمر الذي يدفع المملكة إلى التعامل مع جوارها المباشر، والأوسع، بحزم وبمرونة أيضاً، وباستقلالية عالية دون أن تركن فقط إلى تحالفها التقليدي مع الولايات المتحدة.
وعن السياسة أيضاً..
على صعيد الجوار المباشر، أعاد ولي العهد تأكيد ثوابت منظومة مجلس التعاون الخليجي، والتزام أعضائها تجاه بعضهم بعدم قيام أي دولة بأي تصرف، سياسي أو اقتصادي أو أمني، من شأنه أن يلحق الضرر بالدول الأخرى في المجلس، وفيما عدا ذلك فلكل دولة حريتها في القيام بما يخدم مصالحها تحت هذا السقف الجامع. كما أبدى الأمير حالة من الارتياح والرضا تجاه المصالحة الخليجية الأخيرة وعودة الأمور لنصابها الأخوي والسلمي بين الجميع، خاصة وأن ذلك لا يخدم السعودية وطموحاتها فحسب، بل ينعكس على جميع الأعضاء بتوفير الإمكانات والقوى التي تدعم التطلعات الجديدة لقادة دول المجلس وشعوبها.
وكما هو نهج الرياض دائماً، لم يوصد ولي العهد الباب أمام أي من جيرانه في الإقليم، فعمد إلى التأكيد، الدبلوماسي والمتوازن، على أنّ “إيران جار إلى الأبد، لا يمكننا التخلص منهم ولا يمكنهم التخلص منا”. ليضيف أن السعودية لا تريد أن ترى “صفقة نووية ضعيفة مع إيران”، إذ إنّ أي اتفاق نووي ضعيف سيؤدي لنفس نتيجة امتلاك قنابل نووية، “وهو ما لا نرغب به” يقول ولي العهد، ليردف مع ذلك الإعراب عن أمله في أن تتمكن المحادثات بين البلدين من الوصول إلى “وضع جيد ورسم مستقبل مشرق” لكليهما. وفي هذا السياق يبدو أن طهران تلقفت هذه التصريحات بإيجابية حيث صرح وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان لوكالة الأنباء الإيرانية الرسمية قائلاً: إن “التصريحات الأخيرة لمسؤول سعودي رفيع المستوى تظهر رغبته في إقامة علاقات ثنائية مع إيران ونحن نرحب بذلك”.
وما أريد الإشارة إليه حول هذه النقطة هو أن تصريحات ودعوات مماثلة تكررت خلال السنوات الأربع أو الخمس الماضية، وعادة ما يتم الترحيب بها من الطرف المقابل، غير أن تكرار هذه التصريحات يعني أن لا شيء قد تحقق فعلياً حتى الآن، وهذا ما يوضح باعتقادي أحد أهم المبادئ التي تتعامل بها السياسة الخارجية السعودية مع طهران (الجارة و”اللدودة” أيضاً)، وأقصد هنا الحذر الشديد والتمهل الذي تبديه المملكة في هذا الشأن، ومراقبة توافق سلوك طهران مع تصريحاتها، خاصة وأن الأخيرة لم تنقطع بعد عن استخدام قوتها ونفوذها في إثارة الفوضى ومحاولة تغيير الموازين في المنطقة، لذلك تنتظر الرياض دائماً ترحيباً مقروناً بوقائع ملموسة، حينها سيتمكن الطرفان من الجلوس إلى حوار مباشر وفعلي.
وعلى صعيد مواز نقلت وكالة الأنباء السعودية “واس” عن ولي العهد قوله لـ”الأتلانتيك” إن إسرائيل يمكن أن تصبح “حليفاً محتملاً” للسعودية، ولكن ذلك مرهون أيضاً بالتوصل إلى حل دائم مع الفلسطينيين. وكما في طهران، لقي كلام الأمير احتفاء واسعاً على العديد من الصفحات الإسرائيلية الرسمية.
التزمت السعودية عبر تاريخها بقضايا العرب، حتى يكاد البعض يقول إن دعم الدولة الفلسطينية منسوج في هوية المملكة كدولة، لكنها ظلت دائماً دولة محبة للسلام. ويدرك القادة السعوديون أن لتطبيع العلاقات مع إسرائيل وزن كبير، ولذلك لن يكون مجانياً، بل ينبغي أن يحمل للفلسطينيين قبل غيرهم من شعوب المنطقة فوائد، قد لا تحصلها آلة الحرب واستمرار الصراع.
ومن ناحية استراتيجية.. تسعى السعودية لدور أكبر على خارطة الحداثة العالمية، انطلاقاً من التركيز على الاستثمار الداخلي في المملكة. ومن أهم طموحات “2030” في هذا الصدد تطوير ساحل البلاد على البحر الأحمر من خلال المشاريع السياحية و”المدينة الذكية”. لذلك تبدو إسرائيل المطلة أيضاً على البحر الأحمر والرائدة في التكنولوجيا وتحلية المياه، شريكاً مفيداً ومرحباً به ولكن.. في ظل اشتراط تطبيع علاقتها مع الفلسطينيين أولاً. وبالطبع سيتطلب تحقيق ما سبق قدراً كبيراً من الاستثمار السياسي في كل ملفات المنطقة (سوريا واليمن والعراق ولبنان وغيرها)، ومهارة دبلوماسية عالية لتحقيق التوازن بين تحالف جديد مع إسرائيل وعلاقة ناشئة مع نظام طهران الذي يدعي الالتزام بتدمير إسرائيل.
وختامها.. رسالة مضمرة
في ضوء كل ما سبق، يبدو أن ولي العهد السعودي، الذي وصفه محاوره الأمريكي غرايم وود بأنه شخص “ساحر” و “ذكي”، مدرك تماماً لكل التهديدات الجيوسياسية التي تعاني منها المنطقة، وللاستقطاب الحاد الذي يعيشه العالم والذي تفاقمه الحرب الجارية بين أوكرانيا وروسيا من جهة، وتراجع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، وفي أماكن أخرى كثيرة، من جهة ثانية، قال الأمير الشاب “نحن لدينا علاقة طويلة وتاريخية مع أمريكا، وبالنسبة لنا في السعودية هدفنا هو الحفاظ عليها وتعزيزها. لدينا مصالح سياسية، ومصالح اقتصادية، ومصالح أمنية، ومصالح دفاعية، ومصالح تجارية، ولدينا العديد من المصالح، ولدينا فرصة كبيرة لتعزيز كل هذه المصالح، وأيضاً لدينا فرصة كبيرة لخفضها في عدة مجالات”. ولم يتردد في الإشارة إلى أن العلاقات مع الصين جيدة وفي طور التطور أكثر وأكثر، وإلى التصريح بأن السعودية واحدة من أسرع البلدان نموّاً، وستُصبح قريباً جدّاً البلد الأسرع نموّاً في العالم، وبالتالي الأمر متروك لأمريكا، هل ستفوز بالسعودية أم ستخسرها. وستكون المملكة العربية مستعدة في كلتا الحالتين.
رغم ذلك.. لم يكن صحفي الأتلانتيك غرايم وود منصفاً بحق الأمير الشاب، ومع أن الحوار بنسخته الإنجليزية لم يُنشر بعد، إلا أن مقال الصحفي الذي نشر عن هذا الحوار، وتسرع الصحفي فيه بإطلاق أحكامه التي كان الأولى أن لا يستعجل بإطلاقها قبل النشر المزمع بداية نيسان (أبريل)، فقد احتوى على الكثير من الألفاظ والتعبيرات التي لا ترقى لمستوى الالتزام بالموضوعية التي ينبغي أن يتحلى بها العمل الصحفي والعاملون فيه على حد سواء، بغض النظر عن آرائهم الخاصة ورؤاهم الشخصية التي ما كان ينبغي إقحامها على هذه الصورة. إن وصف الرياض بالمدينة البشعة، ووصف الأمير بالمستبد، وإطلاق صفات من قبيل “جنون العظمة” وغيرها دون أدنى ضوابط أو آداب مهنية، والغمز الخفي من جانب بروتوكولات ترتيب اللقاء والإجراءات الاحترازية المعمول بها بسبب وباء كورونا، وتصوير ارتداء الكمامات وكأنه جزء من مشهد سينمائي غامض وخيالي، وتحويل الكثير من الأحاديث الخاصة إلى مادة للتصريحات الصحفية، دون أي احتراس لجهة عدم التصريح بأسماء قائليها، إن ذلك كله من الأفعال التي كان يجب أن لا يقع فيها الكاتب، وأن يحافظ على الالتزام المهني بدل التضحية به بقصد إثارة الانتباه وجذبه.
عوضاً عن ذلك، وعلى العكس مما تؤكد عليه أعراف المهنة، عمد غرايم وود إلى التبني المطلق لوجهة النظر الأمريكية حيال ولي العهد السعودي، والتي تركز على ما تراه سلبياً وتهمل الإيجابيات، وتطلب المزيد دائماً، دون أن تقدم مزيداً، فحتى اليوم لم تظهر أمريكا التشجيع الذي تستحقه رؤية 2030، رغم كل ما حققته وستحققه: تمكين المرأة ومنحها حقها كعضو فاعل في المجتمع، وتعقب الفساد بكافة أشكاله ومستوياته تنويع الاقتصاد وتحرير المجتمع ورفع قبضة السلطات الدينية التقليدية، وقف تدفق الجهاديين، والاستعداد لعلاقات طبيعية مع إسرائيل وإيران..
لكن.. ورغم الموقف الأميركي المتردد وغير الواضح تجاه “رؤية 2030″، إلا أن ولي العهد أبدى حياداً تجاه ما اعتبره شأناً أميركياً لا علاقة للسعودية به، ليشير في الوقت نفسه إلى أن هذا الأمر مرتبط بمصالح أميركا مع السعودية وفي المنطقة، وعلى الأميركيين اختيار طريقة رعايتهم لهذه المصالح. أما غير ذلك فالأهداف واضحة لدى ولي العهد، مملكة حداثية متطورة ذات هوية تراثية ثقافية ودينية راسخة، منفتحة ومتحررة، متصالحة مع الجوار، فاعلة في الإقليم، وذات علاقات دولية متنوعة ومؤثرة، مدعومة باقتصاد رائد وعصري. ولتحقيق هذه الأهداف تسير عجلة التطور في السعودية بعزم، وبسرعة وثبات.
عود على بدء..
لقد اطلعت جيداً على مضمون رؤية 2030 الطموحة، والمصممة لتكتمل قواعدها وبناها التحتية خلال ما تبقى من سنوات، أما نضج ثمارها المرتبطة بأهدافها الاستراتيجية البعيدة، فهذا أمر يحتاج لفترة أطول بكثير، لكن ذلك لن ينتقص من أهمية التحول السعودي وقدرته على بلوغ مبتغاه. ولن يعطله ميول بعض المراقبين للنقد والتشكيك في كل ما تقوم به السعودية ويتبناه ويقوده مسؤولوها، وفي محاولتهم الدائمة للمقارنة بين مضمون الرؤية وما يعكسه الواقع اليوم، وسعيهم لإظهار الفروق بينهما ببعض الأرقام والإحصائيات المجتزأة أحياناً والمفسرة خارج سياقها أحياناً أخرى. كما تتعمد هذه المقارنات إغفال الظروف الموضوعية والمشكلات المستجدة التي تواجه المشاريع الكبرى من هذا النوع، والتي غالباً ما يتم مواجهتها وتجاوزها بالمرونة في التخطيط وتغيير بعض أدوات وطرائق التنفيذ حفاظاً على الغاية النهائية. خاصة وأن التجارب التنموية قد أثبتت، وفي جميع أنحاء العالم، أن اعتماد سياسة حرق المراحل، والنظر فقط لنتائج الأرقام والبيانات بعيداً عن المحصلة الكلية للإنجاز، كثيراً ما يأتي بثمار عكسية على المدى البعيد.
إن ما تتطلع له رؤية 2030 على صعيد الدولة والأمة لن يتوضح كاملاً خلال السنوات الثمان أو العشر المقبلة، بل سيكون القرن الحالي كله فضاء هذه الرؤية بعد أن تكتمل أسسها ويبدأ التراكم في نتائجها، فـ “2030” لا تقف عند حدود الاقتصاد مع أنه يمثل جوهرها، إنما تتعداه نحو تحقيق سياسات المملكة العامة التي تتناسب مع مركزية دورها السياسي والديني والاجتماعي، وتهيئة جميع البنى؛ الاجتماعية والأمنية والعسكرية والعلمية…، التي تسهم في استمرارية هذا الدور وتطويره. خاصة وأن أطرافاً كثيرة، إقليمية وعالمية، لا تتردد في محاولة تعطيله وحرفه عن مساره، وهذا ما أشار إليه ولي العهد عدة مرات ضمن حديثه، وحيث أنه لم يسمّ هذه الأطراف صراحة فلن نسميها نحن أيضاً، لكن الجميع يعرفها ويعرف ما يُخطط له الغرب اليوم في محاولة تطبيع وجودها وأدوارها في المرحلة المقبلة.
أمر آخر وددت أن لا أتطرق إليه الآن، بل كنت عازماً على أن أناقشه في مقال مستقل، وهو قضية الصحفي المغدور جمال خاشقجي، وتعمد الصحفي “وود” طرحها والإلحاح عليها بقصد الاستفزاز، أو لعله يفوز بسماع كلام لم يُسمع من قبل، ورغم ذلك فقد استقبل ولي العهد أسئلته كلها، وأعاد توضيح كل الملابسات التي رافقت هذه القضية، ونوّه إلى استنكاره ورفضه للإتجار بها من قِبل بعض الجهات الأمريكية ومحاولات استثمارها بغير وجه حق، أضف إلى ذلك أن الأمير ما زال متمسكاً، من جهة مسؤوليته كقائد للدولة، باستنكاره ورفضه، والعمل على عدم تكراره، والتشديد على أن يأخذ القانون مجراه الطبيعي في التعامل مع المتورطين. وفي الحقيقة فإن ما سلكه الأمير تجاه هذا الموضوع هو السلوك ذاته الذي يسلكه مسؤولون غربيون بالاستنكار والاعتذار لأهل الضحية وذويها، ثم يُطوى الأمر بالأحكام القضائية العادلة.
مرة أخرى علينا أن نتلمس طريقنا بأنفسنا مدركين أطماع الآخرين بنا، ومتنبهين لما يجب فعله عندما تتعارض مصالحهم مع مصالحنا، لذلك فإن دعم رؤية ولي العهد ليس مجرد واجب على مواطنيه فحسب، بل وعلى أشقاء السعوديين من العرب، وأصدقائهم وحلفائهم أيضاً.