بقلم: منير أديب – النهار العربي
الشرق اليوم – تزداد المخاوف من نشاط الحركة الجهادية في أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ومن تصاعد وتيرة الصراع في الدولة الأوروبية، ومن ثم انتقال لهيب الحرب إلى دول أوروبية أخرى، وهو ما ستترتب عليه زيادة في نشاط التنظيمات المتطرفة في قلب القارة العجوز.
لا خلاف على أن التنظيمات المتطرفة، وبخاصة العابر منها للحدود والقارات، تجد فرصتها في الانتشار والتمدد وسط الفوضى، ولا توجد فرصة ولا فوضى أكبر من التي تحققها الحرب، وبالتالي تمدد هذه التنظيمات وارد بصورة كبيرة ربما تُعاني منها أوروبا لعقود قادمة.
حالة السيولة التي تحققها الحروب هي بمثابة الملاذ الآمن والبيئة الحاضنة التي تظهر فيها تنظيمات العنف والتطرف، وهي فرصة جيدة للتمدد من دون مواجهة، فالكل مشغول بالحرب، هذه التنظيمات تفرض نفسها على الساحة بخطاب يُناسب لغة الحرب ويجد له رواجاً.
الحرب تفتح مساحة للمقاومة التي تتشكل غالباً من فصائل عربية وإسلامية أو مهاجرين على أساس أيديولوجي، كما كانت الحالة في أفغانستان إبان الغزو الروسي في نهاية السبعينات من القرن الماضي، ولكن مع الوقت تُصبح هذه التنظيمات مصدر إلهام للمسلمين الموجودين في هذه البلاد حتى تتحول إلى واقع مأساوي.
يجب ألا تغيب أفغانستان عن المخيلة في قراءة مشهد الغزو الروسي لأوكرانيا، صحيح أنها دولة آسيوية وليست أوروبيه كما هو الحال مع أوكرانيا، ولكن الغزو السوفياتي خلف تنظيم “قاعدة الجهاد” الذي نشأ على هامش هذه الحرب ومن رحمه خرج “داعش”، والبداية كانت حرباً، وروسيا كانت المشترك بين غزو أفغانستان وبين غزو أوكرانيا.
السلوك الروسي تكرر في جورجيا كما تكرر في الشيشان، وغزو كل منهما خلّف حركة جهادية ما زلنا نُعاني منها، الأولى أنتجت منظرين لهذه الحركة والثانية أنتجت مقاتلين وقادة عسكريين في تنظيم “داعش” على سبيل المثال، والمشترك بين كل منهما روسيا وغزوها لدول ذات سيادة.
التدخل الروسي في سوريا ربما ساعد بصورة أو بأخرى في نشأة بعض التنظيمات المتطرفة أو تمددها؛ فجزء من معاناة سوريا يتمثل في حجم التدخل الخارجي الذي أعطى مبرراً لوجود الجماعات المتطرفة التي تمثل لها هذه البيئة حاضنة أساسية للانتشار والتمدد.
روسيا لا تختلف كثيراً عن الولايات المتحدة الأميركية، كل منهما استخدم واستثمر جماعات العنف والتطرف من أجل مصالحه؛ الأولى دعمت ما أطلقت عليهم “المجاهدين العرب” الذين شكلوا فيما بعد نواة تنظيم “القاعدة” في الحرب الأفغانية، والثانية ردت الصاع صاعين إلى أميركا عندما دعمت “الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين” في العام 1987، والتي تشكلت من رحم هؤلاء “المجاهدين” وكان هدفها مواجهة أميركا، وهو ما أثمر تفجيرات أيلول (سبتمبر) في العام 2001.
نشأة “داعش” تمت على خلفية الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 عندما نشأ تنظيم ما سمي وقتها “الدولة الإسلامية في العراق” ثم تطور حتى بات “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، عندما أتيحت له الظروف العسكرية والأمنية، وهنا يتساوى الأميركيون مع الروس في استخدام جماعات العنف والتطرف.
قراءتنا لتمدد تنظيمات العنف والتطرف في أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا لم تكن من فراغ، وهي مبنية على قراءة للسلوك الروسي على مدار أكثر من نصف قرن، وقراءة أيضاً لطبيعة تشكيل جماعات العنف والتطرف، وهنا يمكن القول إن عوامل التشكل واحدة بين كل هذه التنظيمات.
لا يمكن أن نطابق هذه الحالات بعضها ببعض ولا يمكن أن نصف عوامل النشأة والتمدد بأنها متطابقة بين كل التنظيمات والميلشيات المسلحة، ولكن التقارب والتشابه بين هذه التنظيمات واضحان ما يدفعنا الى التنبؤ وقراءة المستقبل.
نحن نتحدث عن تمدد لهذه التنظيمات في أوروبا بدت تتشكل ملامحه في باريس من العام 2016 على خلفية التفجيرات التي حاصرتها من كل مكان ومنها انتقلت إلى كثير من العواصم الأوروبية التي باتت في وقت من الأوقات عاجزة عن مواجهة خطر هذه التنظيمات، كما باتت عاجزة عن مواجهة خطر “الإخوان المسلمين” أو قراءة هذا الخطر.
زاد خطر تنظيمات العنف والتطرف بصورة كبيرة بعد سقوط دولة “داعش” في آذار (مارس) من العام 2019 وليس قبله ولا أثناءه بالمقارنة، إذ انتشرت خلايا التنظيم النشطة والخاملة في كل القارة بذئابها المنفردة والمتفردة، وبات مصدر التهديد من التنظيم الذي سقطت دولته بعد انتشار مقاتليه في شكل خلايا، وهو ما صعّب من المهمة وجعل أوروبا على حافة الخطر بسبب هذه الخلايا.
وهنا نتحدث عن عودة المقاتلين الأجانب إلى دولهم التي أتوا منها بعد سقوط دولة “داعش”، أما في حالة الغزو الروسي فقد يبدو الوضع مختلفاً، حيث تُصبح أوكرونيا نفسها مركزاً لتجمع هؤلاء المتطرفين لمواجهة الروس، وهنا تُصبح أوروبا مع الوقت في حال تصاعد وتيرة الحرب إلى مصدّر للعنف في منطقة الشرق الأوسط.
من المرجح انتشار الحركة الجهادية في شرق أوروبا وتحديداً في دول القوقاز وداغستان وأوكرانيا على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا بعدما قرر عدد من المسلمين القتال في صفوف القوات الأوكرانية في مواجهة الروس، وهذا يذكرنا بنشاط هذه التنظيمات في أفغانستان، كمثال بعد الغزو السوفياتي لها في العام 1979، إذ تحولت أفغانستان منذ هذا التاريخ إلى خزان للحركة الجهادية في العالم، وهنا يتعامل هؤلاء “الجهاديون” بمنطق الثأر من روسيا، وهو ما سيوفر بيئة حاضنة للإرهاب.
قرار الرئيس الشيشاني رمضان قديروف مساندة القوات الروسية والقتال معها ضد القوات الأوكرانية، ربما يدفع هذه التنظيمات إلى التمدد، فالمقاتلون الشيشانيون يمثلون رقماً مهماً في التنظيمات المتطرفة العابرة للحدود والقارات، ويشكل هؤلاء المقاتلون الذراع القوية داخل هذه التنظيمات، فكثير من قادة “داعش” العسكريين من الشيشان، وهم يمتازون بالغلظة التي أهلتهم لهذا الدور.
الغزو الروسي لجورجيا في العام 2008 زاد من نشاط التنظيمات المتطرفة، وربما أنتج عمر الشيشاني، كمثال، والذي كان يعمل في الاستخبارات الجورجية غير أنه حدث له التحول “المستحيل” وأصبح أحد أهم قادة التنظيمات المتطرفة الأخطر، والمنظر والملهم لجماعات العنف والتطرف في العالم!
وهذا ما أشرنا إليه من أن الحرب وما تحققة من فوضى وسيولة تؤديان إلى زيادة نشاط التنظيمات المتطرفة وتزيدان من تمددها، ولعل هذه التنظيمات هي أحد أهم مخلفات الحرب والنزاعات، حيث تُصبح الدولة أضعف في مواجهتها، كما تستغل هذه التنظيمات خطاباً يبدو أكثر تطرفاً في ظروف الحرب المضطربة.
الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا لها جميعاً أدوار كقوى دولية فاعلة في مواجهة التنظيمات المتطرفة، بخاصة عابرة الحدود والقارات؛ الدور الأميركي بدا واضحاً في التحالف الدولي الذي واجه دولة “داعش” في الشرق الأوسط، كما أن الدور الروسي يبدو واضحاً في مواجهة هذه التنظيمات في سوريا كمثال، ومن هنا يمكن القول إن أي نزاع بين هذه الدول يجعلها تنصرف عن المواجهة مباشرة، فمع تقويض فرص مواجهة الإرهاب تبدو هذه التنظيمات أكثر تمدداً، وهذا لا يعفيها من فكرة استخدام هذه التنظيمات واستثمار وجودها لمصالح سياسية.
“داعش” ينقل مركزه من الشرق الأوسط إلى أوروبا في ظل حالة من التصعيد قد تخلق أفغانستان جديدة في قلب أوروبا تُعاني منها القارة المنكوبة لعقود قادمة، فنزع أي فتيل للأزمة وتقليل وتيرة التصعيد حتى انتهاء الصراع سيقضي على طموح هذه التنظيمات في القارة العجوز التي تبدو أنها على صفيح ساخن وخلاف ذلك سوف يؤدي إلى انتشار الحالة الجهادية.