بقلم: محمد حسين أبو الحسن – النهار العربي
الشرق اليوم – شكّل الغزو الروسي لأوكرانيا صدمة لألمانيا فاعترفت بأن الجيش الألماني كان عارياً، وتعهد المستشار أولاف شولتس إنفاق 100 مليار يورو على تسليحه هذا العام مع تخصيص 2 في المئة من ناتج البلاد للدفاع، سنوياً.
في خطوة تثير لغطاً وقلقاً عبر العالم، اقتحم شولتس حقل ألغام في السياسة الألمانية التي تتجنب التدخل العسكري؛ حتى باتت عملاقاً اقتصادياً وقزماً عسكرياً، يرى المستشار أن الوضع الاستراتيجي لبلاده وتقدمها التكنولوجي يتعارض مع بقائها في موقع المتفرج عسكرياً، بينما تحيط بها الأخطار، لكن النهضة العسكرية الألمانية تزعج الحلفاء قبل الأعداء، توقظ الهواجس القديمة بوصفها باباً لتدشين “الرايخ الرابع” وعسكرة سياسات برلين، وتستحضر مآسي “الرايخ الثالث”، فإلى أين يمكن أن تتدافع الأحداث، وكيف تتشكل المصائر؟!
ظلال الشك
رواسب تاريخية تلقي بظلال شك حول الخطوة الألمانية إعادة بناء الجيش وتسليحه، بالتزامن مع الصعود الملحوظ لليمين المتطرف، ممثلاً بحزب “البديل” والنازيين الجدد الذين انتزعوا عدداً لا يستهان به من مقاعد البرلمان في الانتخابات الأخيرة، فقد استمرت ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ذات “طابع تحريمي”، أي ممنوعة من بناء قوة عسكرية، بعد التجربة النازية بقيادة هتلر التي أزهقت أرواح 70 مليون إنسان حول العالم، لا سيما في أوروبا، كما قلّصت ألمانيا- عندما أعيد توحيدها عام 1990 بنهاية الحرب الباردة- حجم جيشها من 500 ألف شخص إلى 200 ألف حالياً. وفي عام 2010 اضطر الرئيس الألماني هورست كولر إلى الاستقالة؛ بعد تصريح قال فيه: “إن بلداً كألمانيا، بهذا التوجه في التجارة الخارجية يجب أن يعلم بأنه في حالة الضرورة يكون التدخل العسكري ضرورياً؛ للحفاظ على مصالحنا كتأمين طرق التجارة الحرة”. كان الانتقاد الموجه إليه يدور حول ما يُسمى بـ “سياسة البوارج”، وأن القانون الأساسي الألماني لا يسمح بخوض حروب اقتصادية.
اليوم مشهد مغاير، أعلن شولتس في البرلمان “تأسيس صندوق خاص” للجيش الألماني للاستثمار في مجال الدفاع، وتخصيص 100 مليار يورو لتوفير الأسلحة والمعدات الحديثة، بعدما دفع غزو روسيا أوكرانيا أكبر قوة اقتصادية في أوروبا إلى تغيير سياستها العسكرية، في تحول قد يعيد رسم موازين القوى عالمياً. قبل فترة وجيزة، تضمنت خريطة الطريق للسنوات المقبلة للجيش الألماني ولسياسة الأمن القومي أنه “بات ينظر إلى ألمانيا أكثر فأكثر على أنها لاعب مركزي في أوروبا، وأن لديها مسؤولية المساهمة في تشكيل النظام العالمي، وأخذ زمام المبادرة في مواجهة التحديات الأمنية والإنسانية”. وأوضح النص أن “ألمانيا تهدف إلى اتحاد أوروبي أمني ودفاعي مشترك”.
تتجنب ألمانيا أي تحركات أحادية في المهام العسكرية، تحاول التحرك بمشاركة الحلفاء. لكن من هم حلفاؤها؟ الاختيار الأول هو حلف “الناتو”. يؤكد ينس ستولتنبرغ الأمين العام لحلف “الناتو” أن ألمانيا تحتاج إلى “ناتو” قوي والحلف يحتاج إلى ألمانيا قوية، بيد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن، مراراً، أن الحلف يعاني “الموت السريري” بسبب المواقف غير المضمونة لأميركا، داعياً الى تعاون أمني أوروبي أقوى، وهو ما يجد آذاناً صاغية في برلين، لا سيما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكست” والحرب في “أوكرانيا”.
الوحدة الدفاعية
إذ تسعى ألمانيا إلى تأدية دور عسكري أكبر في المستقبل، في إطار حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، عبر نوع من “الوحدة الدفاعية” بين بلدان الاتحاد، تستعيد مشروع الدفاع الأوروبي المقترح عام 1954. كما طالب المستشار الألماني الأسبق غيرهارد شرودر بحشد باريس وبرلين مواردهما في شكل مؤسسي في السياسة الخارجية والأمن.
تبذل ألمانيا جهوداً مضنية لطمأنة الحلفاء إلى نواياها، بيد أن التوجس هو سيد الموقف، يخشى الجميع استيقاظ عملاق أوروبا النائم “عسكرياً”؛ كتب ألكسندر سيتينكوف المحلل السياسي الروسي مقالاً في “سفوبودنايا بريسا”، حول “عودة الرايخ الرابع”؛ لافتاً إلى وجود خطة ألمانية للسيطرة والقوة، تستغل انشغال أميركا بالصراعات مع الصين وروسيا وتفشي جائحة كورونا.
في السياق نفسه، كتب روبرت كاغان الباحث في معهد بروكينغز، مقالاً في “فورين أفيرز” بعنوان: “السؤال الألماني الجديد: ماذا سيحدث عندما تتفكك أوروبا؟”، تساءل فيه هل تعود ألمانيا إلى النازية؟ أم تظل متمسكة بالقيم الديموقراطية والهُوية الأوروبية الموحدة؟. يلفت كاغان النظر إلى أن ألمانيا في نسختها الحالية تقوم على قيم الديموقراطية والسلام، وأنها نشأت في ظل النظام الدولي الليبرالي عقب الحرب العالمية الثانية، ما وفَّر بيئة مواتية للألمان لإحداث هذا التطور، مشيراً إلى أربعة محددات بهذا الشأن، أولها التزام الولايات المتحدة الأمن الأوروبي، ما وضع حدّاً للأسباب التي أنتجت ثلاث حروب كبرى في أوروبا في سبعة عقود؛ وألغى الحاجة لتكديس الأسلحة الباهظة الثمن من جانب دول القارة وسمح لها بالتركيز على تعزيز الرخاء والرفاهية الاجتماعية لمواطنيها، والتخلي عن الطموحات الجيوسياسية، ما أدى بدوره إلى تحقيق استقرار سياسي، والثاني هو الاقتصاد الحر واعتماد برلين على الصادرات، ما جعلها محركاً للنمو الاقتصادي العالمي، ومرساة للرخاء والاستقرار الديموقراطي أوروبياً وعالمياً؛ لا سيما بعد سقوط حائط برلين عام 1989، وتأسيس الاتحاد الأوروبي عام 1993. ويرتبط المحدد الرابع بقدرة المؤسسات عبر الوطنية، مثل “حلف الناتو” و”الاتحاد الأوروبي”، على قمع النزعات القومية داخل ألمانيا؛ والهروب من ماضيها العدواني.
طموحات جيوسياسية
لكن كم من الوقت تواصل ألمانيا إنكار طموحاتها الجيوسياسية التوسعية، وفخرها القومي القديم؟… سعت برلين إلى طمأنة جيرانها بأن الألمان لن يعودوا إلى ماضيهم النازي، غير أن “المسألة الألمانية” تطفو على السطح لعوامل داخلية وخارجية، في ظل خلخلة النظام الدولي الراهن؛ وتراجع الديموقراطية وتصاعد الشعبوية والقومية، بخاصة في أوروبا، وتضعضع الالتزام الأميركي تجاه أمن أوروبا؛ بالإضافة إلى التداعيات السلبية لـ”بريكست” على الاستقرار وتوازن القوى في القارة العجوز.
كما كشف الغزو الروسي لأوكرانيا أنه يصعب على الدول الأوروبية الاستمرار في نبذ القوة العسكرية كأداة للنفوذ الدولي؛ ما يضطرها إلى الإنفاق على التسلح لتولي مسؤولية الدفاع عن أنفسها، ومن ثمّ العودة لسياسات القوة التي هيمنت على أوروبا لآلاف السنين. ولو انتهى الأمر بباقي دولها إلى اتباع المسار ذاته، فسيصعب على ألمانيا ألا تنضم إلى الركب؛ وإذا حدث ذلك- وأظنه سيحدث- فإن الفرصة مواتية أمامها لتصبح أقوى دولة أوروبية اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، لتكون بذلك قد حققت سلماً، ولو إلى حين، ما فشلت بتحقيقه حروب ودماء.
لا تبدي دول كثيرة ارتياحاً الى الرغبة الألمانية، لكن السكوت الموقت هو لكسر العلاقات الألمانية – الروسية، وهو هدف أساسي من أهداف ما يجري في أوكرانيا ووقف خط “السيل الشمالي-2″؛ إن أكثر ما يؤرق أميركا هو تنامي الروابط الاقتصادية بين أوروبا وكل من الصين وروسيا؛ ما يهدد باختفاء “الناتو”، لذلك فوجود عداء مع موسكو وبكين يضمن تضحية الأوروبيين بمصالحهم التجارية والمالية والاعتماد على المصدرين والمستثمرين الأميركيين، والحاجة للسلاح الأميركي، لكن مهما يكن إتقان “اللعبة” تخطيطاً وتنفيذاً قد يكون للتاريخ رأي آخر.
لقد استوعبت القبائل الجرمانية الطرق الرومانية في بناء الإمبراطورية، وسارت على دربها، ولهذا فإنه بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الأولى، ولد الرايخ الأول في عهد الإمبراطور شارلمان – تذكر الموسوعات أن “الرايخ الألماني” هو الاسم الرسمي لألمانيا في الفترة ما بين 1871 و1945، ومعناه “الإمبراطورية الألمانية” – والثاني في زمن بسمارك، وضاع الثالث في عصر هتلر، فهل يولد الرايخ الرابع الآن، وما شكل العالم عندئذ؟!
ذاك حديث آخر.