بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- في أجواء التصعيد للأزمة العالمية بين روسيا، وبين الغرب تتصدر جبهته الولايات المتحدة، قفزت إلى المشهد الراهن واقعة عمرها 25 عاماً، يظهر من خلالها التشابه – إلى حد التطابق – بين الأسباب التي شكلت تفكير الرئيس بوتين، وبين ما سبق أن شرحه ونبه إليه الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل جورباتشوف، وحدث ذلك بينما كان جورباتشوف يخاطب الأمريكيين، أثناء زيارة له إلى بلادهم.
رؤية جورباتشوف قفزت إلى ذاكرتي من واقعة حضرتها في عام 1997، أثناء سنوات عملي مراسلاً في الولايات المتحدة. وقتها سافرت إلى مدينة هيوستن بولاية تكساس لحضور مؤتمر استمر ثلاثة أيام، تحدث فيه جميع وزراء خارجية أمريكا الذين على قيد الحياة، عن السياسة الأمريكية في القرن الواحد والعشرين، ثم جاءت كلمة جورباتشوف في اليوم الثالث. وكان وقتها خارج الحكم في بلاده. وبدأ جورباتشوف كلمته معترضاً على مسار السياسة الخارجية للولايات المتحدة بوجه عام، وناصحاً بما ينبغي أن تكون عليه علاقتها مع روسيا، وموضحاً أن ذلك في مصلحة الطرفين وسلامة وأمن العالم.
وزيارة جورباتشوف كانت بدعوة من الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، الذي استضافه في مزرعته في تكساس، والمعروف أن إدارة بوش كانت تؤكد حرصها على أمن روسيا القومي، وهو ما عبّر عنه علنا وزير خارجيته جيمس بيكر بقوله، “إننا لن نتقدم بوصة واحدة شرقاً في اتجاه المجال الأمني لروسيا”. وهو التعهد الذي تنصلت منه الولايات المتحدة وحلف الناتو فيما بعد، وهو من الأسباب الرئيسية لتشكيل سياسة بوتين التي شملت التصعيد إلى حد مهاجمة أوكرانيا، وما أعلنه من استيائه لعدم تلقيه رداً إيجابياً من أمريكا على مطالبه بمراعاة المخاوف الأمنية لروسيا.
كان اعتراض جورباتشوف على مسار التفكير الأمريكي محدداً بقوله: “للأسف فإن البعض في الغرب والكثيرين في الولايات المتحدة، صوّروا نهاية الحرب الباردة على أنها انتصار لهم، ومعنى هذا أن الوسائل التي اتبعت في فترة الحرب الباردة، ستظل تستخدم في المستقبل، بما في ذلك اللجوء إلى خيارات القوة”.
وبعد استعراضه للأحداث العالمية الراهنة فإنه توقف أمام نقطة مهمة تتعلق ببلاده روسيا، وعلاقات أمريكا معها، فأشار إلى تقرير قرأه لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، جاء فيه توافق في الآراء من اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ، وثلاثة من الرؤساء السابقين للمخابرات المركزية، حول رأي موحد، بأنه لا يمكن التعامل مع روسيا، وأنها تمثل خطراً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة.
ثم علق جورباتشوف على هذه الرؤية بأنه كان يجب على هؤلاء أن يعلموا بأن روسيا لا تشكل اليوم أو في المستقبل تهديداً للمصالح الحيوية لأمريكا، وأنه لا يجب أن تقوم الاستراتيجية الأمريكية تجاه روسيا على إضعافها، لأن ذلك ليس في مصلحة أمريكا، باعتبار ذلك تفكيراً خاطئاً وخطيراً.
واستعاد جورباتشوف ما يعرفه عن رأى مخالف لهؤلاء، كان لهنري كيسنجر – الذي تحدث قبله في هذا المؤتمر – عن أهمية التبادل والتعامل مع روسيا، وضرورة قبول وتفهم دور روسيا، ثم قال: “إن بناء السياسات للمستقبل على منطق القوة ليس خياراً سليماً”.
وما إن اختتم جورباتشوف كلمته حتى دوت القاعة الكبرى التي احتشد فيها 4000 شخص، بتصفيق متواصل، وكانت أكثر المواقف التي لقيت تصفيقاً أشد حرارة، تلك التي رفض فيها فكرة القوة العظمى الوحيدة، مفهوم أمريكا رجل الشرطة للعالم.
إن ما قاله جورباتشوف قبل 25 عاماً، يبدو الآن مثل مرآة تنعكس عليها ملامح الأزمة الحالية بين روسيا وأمريكا. خاصة وإن كان بوتين قد عبّر مراراً عن وجهة نظره بعبارات تكاد تتطابق مع ما أبداه جورباتشوف من مخاوف ونصائح، فإن بوتين شكا مؤخراً – وقبيل اشتعال الأزمة حول أوكرانيا – من تشخيص الغرب لنهاية الحرب الباردة، على أنه انتصار لهم، خرجت منه روسيا مهزومة، وإنهم يتعاملون معها منذ ذلك الحين باستهانة، وكأنها في حساباتهم مجرد دولة إقليمية لا وزن لها، وكرر رفضه لعدم استجابة الولايات المتحدة لمخاوف بلاده الأمنية، وعدم التزام أمريكا بتعهدها في عام 1993، بأن حلف الناتو لن يتمدد شرقاً في اتجاه الجمهوريات التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، والتي تعتبر الساحة الخلفية لأمن روسيا القومي. وذلك كله كان يلخص إحساساً لدى الروس بأن الولايات المتحدة تتعامل مع من كانوا أعداء بالأمس، وكأنهم سوف يبقون أعداء دائمين.