بقلم: يوسف بدر- النهار العربي
الشرق اليوم- يراهن عدد كبير من الساسة في إيران، لا سيما من الإصلاحيين، على الاستفادة من الأزمة الأوكرانية لدخول سوق الطاقة الأوروبي، بخاصة أن الأوروبيين يبحثون الآن عن بديل للغاز الروسي، وهذه الحرب ستجعلهم يعيدون النظر في إدارة سياستهم الخارجية ومراجعة استراتيجياتهم الأمنية، وهو ما سيوجه أنظارهم إلى إيران وأهمية استعادة العلاقات معها على المستويات كافة. وتبدو هذه الأزمة فرصة مواتية لإيران للتوصل الى اتفاق مع الغرب بخصوص الاتفاق النووي.
تبدو هذه النظرة مبنية على كيفية إدارة الأزمة الأوكرانية والاستفادة منها؛ لكنها أيضاً يجب أن تضع في الاعتبار، كيف تدير روسيا سياستها الخارجية، وإيران كذلك.
وفي الإجابة، أن كلا البلدين يعتمدان استراتيجية “الدولة الفاشلة” (الدولة التي لا تستطيع أن تلعب دوراً ككيان مستقل) في إدارة حلفائهما والاحتفاظ بهم. وذلك يرجع الى طبيعة محددات السياسة الداخلية لكلا البلدين؛ حيث الحفاظ على مبدأ حاجة “الهامش” إلى “المركز”. وهو ما ينتقل إلى السياسة الخارجية أيضاً؛ فنجد موسكو تحافظ على استمرار حاجة طهران إليها. والأمر نفسه تمارسه إيران مع حلفائها في منطقة الشرق الأوسط.
اتّفاق محتمل ولكن!
يمكن التوصل الى اتفاق نووي في فيينا، حتى في ظل أزمة روسيا مع أوروبا، فالحرب ستنتهي عاجلاً أم آجلاً؛ لكن لا يمكن تجاهل أن موسكو هي واحد من أعضاء المجموعة الدولية 5+1 المكلفة التفاوض مع طهران، وأنها لن تدعم نجاح هذه المحادثات من دون أن تضع في الحسبان مصالحها ومكاسبها أولاً. فممثل روسيا في هذه المحادثات ميخائيل أوليانوف دائماً ما يخرج بتصريحات إيجابية تنقذ الموقف، وتؤكد إمكان التوصل الى اتفاق نهائي.
لكن هذا الدور الذي تلعبه روسيا في إدارة “سلوك إيران” وضبطه ليس بالمجان. وهذا الأمر أكده العضو السابق في لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، حشمت فلاحت بيشه الذي قال إن “الروس لم يسمحوا بالتوصل الى اتفاق في فيينا، قبل أن يهاجموا أوكرانيا؛ لأنهم في حاجة لورقة هذا الاتفاق للمساومة مع الغرب”. ولذلك، هو طالب حكومته بعقد محادثات مباشرة مع واشنطن؛ من أجل إخراج موسكو من هذه اللعبة السياسية.
استراتيجيّة “الدّولة الفاشلة”
ليس بالسهل إبعاد روسيا عن المحادثات النووية، في ظل استراتيجية “الدولة الفاشلة” التي تتبعها مع إيران، بخاصة أن هناك تياراً محافظاً ومتشدداً داخل إيران، يساعد روسيا بسلوكه على تحقيق استراتيجيتها؛ إذ يرفض الجلوس مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية، ويراهن أيضاً على التوجه شرقاً في دعم اقتصاد بلاده.
وهذا التيار الذي يُعتبر “الحرس الثوري” جزءاً منه، عمل من قبل، وبدعم وتنسيق مع روسيا، في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، وبشهادة وزير خارجيته محمد جواد ظريف، على إفشال الاتفاق النووي المبرم عام 2015؛ من خلال زيادة مستوى الدعم العسكري والمالي للميليشيات الخارجية، لا سيما في سوريا، فضلاً عن الاستعراض الصاروخي؛ وذلك بعدما استعادت إيران مليارات الدولارات من أموالها المجمدة في الخارج بموجب ذاك الاتفاق.
والنتيجة هنا، أن روسيا أضرت إيران أكثر من أي دولة أخرى؛ فقد عانت إيران واقتصادها بقسوة منذ خروج الرئيس الأميركي الجمهوري دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018. وكانت موسكو قد رحبت بفوز ترامب ودعمت وصوله الى السلطة؛ لأنها تعرف أنه سيقضي على الاتفاق النووي، ونسّقت مع إسرائيل لنجاح ذلك.
والآن، يكرر هذا التيار نفسه دوره التخريبي، في خدمة مصالحه مع المعسكر الشرقي؛ إذ قام “الحرس الثوري” بتجربة إطلاق صاروخ بالستي فاشلة قبل أيام، في منطقة “سمنان”، بحجة إطلاق قمر اصطناعي، الهدف منها هو استفزاز الغرب والقوى الإقليمية بالاستعراض الصاروخي، في ظل إصرار إيران على عدم تناول أي قضية خارج البرنامج النووي، بما فيها ملف البرنامج الصاروخي الذي تعتبره خطاً أحمر.
إن الاتفاقية الاستراتيجية لإيران مع الصين، والأخرى المنتظرة مع روسيا؛ تأتيان في إطار معالجة مخاوف موسكو ومعسكرها في الداخل، من مخاطر العودة الى الى الاتفاق النووي، بخاصة بعدما تم التخلص من الشركات والاستثمارات الأجنبية بعد فشل اتفاق 2015؛ إذ تريد روسيا أن تجعل إيران تعتمد عليها في المقام الأول.
كذلك، الحديث عن إمكان تزويد أوروبا بالغاز الإيراني، هو أمر ممكن وليس بالمستحيل؛ ولكن أيضاً لا يمكن إخراج روسيا من هذه المعادلة؛ يجب النظر إلى “اتفاقية التعاون لـ20 عاماً” التي بموجبها ستستخرج موسكو الغاز من حقل “تشالوس” الإيراني في بحر قزوين، الذي يمكنه توفير 20% من الطلب على الغاز الطبيعي في أوروبا.
وأيضاً يجب عدم نسيان أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد اعترف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، بعد ساعات من قمة الدولة المصدرة للغاز في الدوحة، التي تتطلعت أوروبا إلى الحصول منها على بديل للغاز الروسي. وإذا طمح الغرب الى إعادة تفعيل مشروع خط أنابيب “نابوكو” (آسيا الوسطى، إيران، تركيا، بلغاريا، رومانيا، المجر، النمسا)؛ فإن روسيا ستكون باستثمارات شركتها “غازبروم” هي التي تضخ الغاز عبر هذا الأنبوب.
إيران على الخطى نفسها
إيران أيضاً تمارس استراتيجية “الدولة الفاشلة” في إدارة سياستها الخارجية؛ ومن الصعب التخلص من هذه السياسة، في ظل هيمنة المتشددين والمتكسبين من طبيعة هذا النظام، حتى وإن توصل الغرب الى اتفاق معها. وهذا ما يؤكده حرصها على استمرار دعمها الميليشيات الموالية لها في المنطقة، تحت غطاء “المقاومة”. فقد باتت هذه الميليشيات، في استراتيجية إيران، بمثابة قنابل نووية متناثرة، تمتد من العراق حتى سوريا ولبنان واليمن. وإذا نظرنا إلى الخريطة لوجدنا أن طهران سعت إلى تكرار نموذج “الدولة الفاشلة” والحفاظ عليه في المناطق التي تمثل أهمية لمصالحها الاقتصادية والأمنية.
ولذلك، عندما قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في 28 نيسان (أبريل) 2021: “لا نريد أن يكون وضع إيران صعباً، بالعكس، نريد لإيران أن تنمو، لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار”، فإن طهران، ومن أجل أن تتجاوز استراتيجيتها التخريبية، هي في حاجة أولاً إلى أن تتخذ أعلى سلطة فيها قراراً قادراً على تعديل سلوكها الخارجي، من أجل تحقيق سياسة إقليمية قادرة على مواكبة التحولات السياسية والاقتصادية في المنطقة. وهو أمر يصعب إقناع التيار التخريبي به داخل إيران؛ لأنه يتكسب من سياسة صناعة الأزمات.
محصّلة
لا يمكن القول إن الرهان على الاتفاق النووي في تعديل سلوك إيران الخارجي، هو رهان فاشل؛ لأن سياسة العقوبات وحصار إيران، هي التي عززت من قوة المتشددين في النظام الإيراني، الذين شاركوا روسيا في صناعة نموذج “الدولة الفاشلة”.
إن فكرة تخلص إيران من روسيا بمجرد قرار سياسي، واستغلالاً للأزمة الأوروبية للتقرب من الغرب؛ هو محض خيال؛ لأن التركيبة السياسية في إيران لن تسمح بذلك. كما أن روسيا عملت على تطويق إيران بعلاقات واتفاقيات تجعل لها اليد العليا في إدارة سياسة إيران، وملف إدارة “غاز الشمال” شاهد على ذلك.
لا إنكار أن إيران في ظل هيمنة المحافظين على السلطة وتغلغل الحرس الثوري في القرار السياسي، يمكن أن تكرر خطأ “اتفاق 2015” بأن تمنح الأموال العائدة من الخارج بموجب قرار رفع العقوبات، إلى دعم الميليشيات الموالية لها في المنطقة، في إطار استراتيجية صناعة “الدولة الفاشلة” التي تمارسها ضد دول المنطقة، والدور سيكون هنا للولايات المتحدة، التي ربما توظف ذلك الدعم في خدمة مصالحها. أو تفرض على إيران الانضمام الى معاهدات دولية تراقب سلوكها، مثل معاهدة “مكافحة غسيل الأموال ومكافحة الإرهاب” (فاتف).