بقلم: د. محمد أمين الميداني – صحيفة الجريدة
الشرق اليوم- ستطرأ تغيرات سياسية واقتصادية وسكانية على أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ولن تعود هذه الدولة الأوروبية كما عرفناها قبل هذا الغزو، وسيكون له آثار عديدة على شعبها، وستمتد نتائجه لدول أخرى، وستستمر جراحه تنزف سنوات.
سعت الدول الأوروبية ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، طوال الأسابيع الماضية، إلى تفادي وقوع حرب على أراضي دولة أوروبية (أوكرانيا)، ولكن يبدو أن كل هذه المساعي لم تثمر على أرض الواقع! فلقد دخلت القوات الروسية، فجر يوم 24/ 2/ 2022، الأراضي الأوكرانية من عدة جبهات ومن بينها جبهة روسيا البيضاء (بيلاروسيا) وجبهة (شبة جزيرة القرم) التي سبق أن ضمتها روسيا الاتحادية لأراضيها عام 2014، وقصفت الطائرات الروسية مختلف الأهداف في تلك الدولة الأوروبية.
كانت الآمال معقدة، فبعد أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وانتهت العمليات العسكرية على الأراضي الأوروبية وخارجها، وإحصاء ضحايا هذه الحرب، والسعي لإعادة الإعمار؛ لفتح صفحة جديدة في تاريخ هذه البلدان الأوروبية واستخدام كل الوسائل لعدم تكرار فظائع هذه الحرب، وفظائع الحرب العالمية الأولى والتي كانت لا تزال ماثلة أيضا في أذهان الشعوب الأوروبية، بدأت أولى الخطوات العملية لتجنب نزاعات وصراعات جديدة في القارة الأوروبية بتأسيس منظمات إقليمية مثل: منظمة شمال حلف الأطلسي (الناتو) عام 1949، كما تم تأسيس منظمة مجلس أوروبا في عام 1949 نفسه (وبالمناسبة فإن أوكرانيا عضو في هذا المجلس منذ عام 1995، وكذلك روسيا الاتحادية منذ عام 1996). وتم كذلك تأسيس منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في عام 1975.
وبُذرت أولى بذور التعاون الاقتصادي والسياسي بين مجموعة من الدول الأوروبية بفضل تأسيس ما كان يُعرف باسم (جماعة الفحم والصلب) اعتمادا على اتفاقية باريس لعام 1951، مرورا باتفاقيتي روما لعام 1957 اللتين أسستا (الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية)، و(الجماعة الاقتصادية الأوروبية)، ووصولا إلى اتفاقية (ماسترخت – هولندا) عام 1992، واتفاقية (أمستردام) عام 1997، واللتين تم تعديلهما واستكمالهما بفضل اتفاقية (نيس) لعام 2003، إلى أن تم اعتماد اتفاقية (لشبونة – البرتغال) لعام 2009، والتي أصبحت دستورا لهذا الاتحاد، ولكن زعزع خروج بريطانيا العظمى وشمال إيرلندا في بداية عام 2020 هذا الاتحاد، مما أثر بلا شك على أهميته الاستراتيجية ودوره وتعامل بقية دول العالم معه وذلك في مختلف المجالات.
ولا ننسى ونحن نستعرض التاريخ القريب للقارة الأوروبية، كيف عزز انهيار سقوط جدار (برلين) عام 1989، وتفكك الاتحاد السوفياتي نهاية عام 1991، آمال الشعوب الأوروبية وتطلعاتها لمستقبل أفضل من كل النواحي، وكيف بدأت عملية إدماج دول المعسكر الشرقي سابقا في المنظمات الأوروبية، وإدخال التغيرات والتعديلات على أنظمتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولكن جاءت الصدمة الأولى، وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلت على مستوى المنظمات الأوروبية وتبدل الأنظمة السياسية في بعض البلدان الأوروبية، في الفترة ما بين عام 1991 و2001، نتيجة تفكك جمهورية يوغسلافيا الاتحادية، وظهور دول جديدة على الخريطة السياسية لأوروبا، من دون أن ننسى الفظائع التي ارتكبت في المعارك التي اندلعت في مختلف مدن هذه الجمهورية ومناطقها وبخاصة الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والإبادة التي ارتكبت في حق شعوب وأفراد وسكان هذه المدن وقراها، ولا تزال ذكريات هذه الحرب وآثارها ماثلة في أذهان هذه الشعوب وضمائر أفرادها.
ومن المؤكد أن الآمال التي كانت معقودة على أوروبا ومختلف منظماتها وأشكال توحيد جهودها وتعزيزها سياسيا واقتصاديا، من ناحية، والمخاوف من تكرار ما حدث على أراضي جمهورية يوغسلافيا السابقة وما ترتب عليها من خراب وقتل وتشريد، من ناحية ثانية؛ تلك الآمال وهذه المخاوف هي التي عادت لتقلق الشعوب الأوروبية ومختلف أنظمة حكمها، وهي ترى لهيب حرب جديدة تشتعل في أراضي دولة أوروبية، وغير بعيد عنها، وتخشى أن يصيبها حر هذه الحرب، أو أن تكتوي بلظاها.
إن هذا النزاع العسكري بل لنقل هذه الحرب الأوروبية هي بلا شك نقطة تحول جديدة، كما عبر مؤخرا عن ذلك الرئيس الفرنسي، بل نراها أيضا نقطة تحول خطيرة بما ستحمله من نتائج، وما ستسببه من مشكلات، وما ستخلقه من نزاعات، في وقت تصورت فيه الدول الأوروبية وشعوبها أنها في منأى عنها! فها قد عادت الطائرات الحربية تخترق أجواء دولة أوروبية وتحلق في سمائها، وتدفع بمئات الأفراد إلى الملاجئ وأماكن مأوى آمنة، واجتازت قوات عسكرية الحدود الدولية لدولة أوكرانيا، واستخدمت مختلف الأسلحة لإخضاع القوات المقاومة رسمية كانت أو شعبية، وبدأت موجة نزوح جديدة نحو دول الجوار الأوروبي هربا من الحرب والقتل والدمار، ولم يكن عبثا ما صرح به الأمين العام للأمم المتحدة من أن انتهاك أراضي وسيادة أوكرانيا “يتعارض مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة”، وحرص المجتمع الدولي على حفظ السلم والأمن الدوليين.
ستطرأ تغيرات سياسية واقتصادية وسكانية على أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ولن تعود هذه الدولة الأوروبية كما عرفناها قبل هذا الغزو، وسيكون له آثار عديدة على شعبها، وستمتد نتائجه لدول أخرى، وستستمر جراحه تنزف سنوات، كما سيبقى الباب مفتوحا لتطورات جديدة تستدعي متابعتها وتحليلها والكتابة عنها مستقبلا منها ما سيتعلق بالدول الأوروبية، ومنها ما ستعلق ببلدان أخرى، وسيكون لها تداعياتها على المستويات السياسية والاقتصادية والمالية، ناهيك عما سيتعلق بأزمات الغذاء والوقود والتزود بالطاقة بمختلف أشكالها.