بقلم: ماجد كيالي – النهار العربي
الشرق اليوم – سوريا وبيلاروسيا وكوريا الشمالية وإريتريا، فقط، هي التي وقفت إلى جانب روسيا بوتين في حربها على أوكرانيا، في التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة أخيراً، فحتى إيران وفنزويلا وكوبا، مثلاً، نأت بنفسها بامتناعها عن التصويت، بين مجموعة من الدول (بينها الصين والهند)، في حين أيدت قرار إدانة تلك الحرب 141 دولة.
وفي الواقع فإن هذا التصويت يكشف صورة روسيا وحجمها ووزنها على الصعيد الدولي، في الحقبة البوتينية، علماً أنها أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وأكثر دولة لديها ثروات باطنية، لكنها مع ذلك لا تعد من الدول العشر الأولى في العالم (دخلها السنوي أقل من 2 ترليوني دولار)، في القوة الاقتصادية، واللافت أن كندا وإيطاليا وكوريا الجنوبية تتفوق عليها، ما يفيد بأن مشكلة روسيا تكمن في شكل إدارتها، وطبيعة نظامها السياسي، وفي الخيارات التي تنتهجها قيادتها، في علاقتها بشعبها، وفي علاقاتها بدول العالم.
الآن، وبغض النظر عن الجدل في شأن وجاهة الحرب الروسية في أوكرانيا أو مشروعيتها، من عدم ذلك، يمكننا ملاحظة أن تلك الخطوة لم تكن حكيمة، ولا مدروسة جيداً، إذ كان بالإمكان انتهاج سياسات أخرى، ووسائل ضغط أخرى، لتأمين مصالح روسيا، وتخفيف مخاوفها.
هكذا، فإن مشكلة روسيا على هذا الصعيد إنها بلد يديره فرد بمعزل عن أي مؤسسات أو إطارات، لا سيما أن ذلك الرجل مسكون بهاجس عظمة روسيا، وبالروح العسكرية الروسية، وبطموحه إلى فرض روسيا كقطب أو كدولة عظمى، في عهده.
بيد أن مشكلته في هذا الاتجاه تكمن، أيضاً، في أنه لا يملك الوسائل اللازمة لذلك، ولو بالحد الأدنى نسبة الى ما تمتلكه الولايات المتحدة أو الصين أو اليابان أو ألمانيا أو بريطانيا أو فرنسا، مثلاً، وأنه لا يمتلك وسائل ضغط ناعمة، أو غير مباشرة، لإنفاذ سياساته (كما تفعل الولايات المتحدة عقاباً له)، وأن الدولة في عهده لم تستطع أن تفرض مكانتها كقطب دولي، بالقياس لما استطاعته الصين، المنافسة لأميركا، مثلاً، من دون وسائل عسكرية، أي بوسائل التقدم الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي، وبما تصدره للعالم.
وفقاً للاعتبارات السابقة فإن بوتين يدرك أنه لا يستطيع فرض روسيا دولة عظمى بالوسائل الطبيعية، الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية والتبادلات التجارية وقوة النموذج السياسي والثقافي، وأن هذا الأمر يحتاج منه للاستثمار في القوة العسكرية، كما فعل سابقاً في الشيشان (1999) وجورجيا وأوكرانيا (2014)، وسوريا (2015) وصولاً إلى ليبيا أخيراً.
في هذا السياق يحاول بوتين ابتزاز العالم بمسألتين: الأولى، تهديد الدول المجاورة باحتلالها أو الهيمنة عليها بالقوة والقسر، وهي دول ضعيفة أساساً، وجزء كبير من ضعفها اقتصادياً وعسكرياً، يعود لعدم سيادتها على ذاتها في الحقبة السوفياتية، وربما في الحقبة الروسية الأسبق، أيضاً. والثانية، التلويح بامتلاكه السلاح النووي، ما يفسر إعلانه وضع الأسلحة النووية الروسية على أهبة الاستعداد. وهو في هذا وذاك يشرح للعالم أنه كرجل خطير ليست لديه خيارات، فإما إرضاء غطرسته وطموحه، أو الطوفان.
في محصلة تلك المغامرة، أو الحرب، “نجح” بوتين، حتى الآن، في تحقيق الآتي:
أولاً، إحياء حلف “الناتو” بعدما كاد هذا الحلف يدخل عالم الإهمال أو النسيان، إلى درجة أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب طالب بالتخلص منه، وتساءل عن مبرر الإنفاق أو الإبقاء عليه.
ثانياً، إيقاظ الروح العسكرية الألمانية، فبعدما اطمأنت ألمانيا إلى عالم خالٍ من الحروب، مركزة على مكانتها كدولة فاعلة في التطورات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية، وكقاطرة للاتحاد الأوروبي، إذا بها ترى نفسها في عالم لا يزال يعتمد القوة، ما جعلها تخصص 100 مليار دولار للإنفاق العسكري (2 في المئة من ناتجها السنوي)، بل وتبعث أسلحة إلى أوكرانيا بعدما تمنعت عن ذلك، هذا فضلاً عن تجميدها خط الغاز الروسي نورستريم 2.
ثالثاً، عززت الحرب من اعتمادية الدول الأوروبية على الولايات المتحدة بوصفها القوة العسكرية العظمى في العالم (تنفق 700 مليار دولار سنوياً، ما يساوي 40 في المئة من الإنفاق العالمي)، في حين كانت في السابق تحاول شق طريق مستقل لها.
رابعاً، أثارت الحرب مخاوف الدول الأوروبية التي ذاقت ويلات الحربين الأولى والثانية، من روسيا، ومن سعيها لاستخدام قوتها العسكرية لفرض إملاءاتها السياسية.
خامساً، نجحت الحرب البوتينية في زرع إسفين كبير بين الشعبين الروسي والأوكراني، ربما سيحتاج جسره إلى عقود، بل إن تلك الحرب ساهمت من حيث لا يدري صاحبها بتخليق أمة أوكرانية بتاريخ جديد أو بحدث مؤسس هو هذه الحرب.
سادساً، الحرب ربما ستؤدي إلى زعزعة ما يسمى الخيار الأوراسي الذي يراود بعض السياسيين الروس، لأن هذا المشروع يقوم على الغلبة العسكرية، وعلى إبقاء هيمنة الروس على باقي الشعوب، ولا شك في أن النموذج الموعود في أوكرانيا، في حال نجح بوتين في مسعاه، لن يلعب لمصلحة الفكرة الأوراسية المتخيلة.
هذه بعض الملامح الأولية لنتائج الحرب البوتينية في أوكرانيا، وكما يقال، فإنك يمكن أن تبدأ حرباً لكن من الصعب معرفة نهايتها، أو طريقة الخروج منها، أو تداعياتها المباشرة وغير المباشرة، القريبة والبعيدة، وهذا أكثر شيء ينطبق على هذه الحرب التي سيخرج منها المنتصر، أو الأقوى، خاسراً، حتى لو ربح المعركة، وما نشهده من عزلة روسيا، وتعرية ضعفها أمام العالم بوسائل غير عسكرية هو مؤشر كبير إلى ذلك.
كان يمكن لبوتين أن يتعظ من انهيار الاتحاد السوفياتي، لدخوله أو استدراجه في مغامرة حرب النجوم، التي استنزفته، وهو لم يَنهَر في حينها لا نتيجة تظاهرات شعبية من داخله، ولا نتيجة حرب شنتها دولة من خارجه، إذ انهار بسبب العورات التي اكتنفته، وبسبب ضعفه في كل المجالات الأخرى (عدا العسكرية!). كما كان يجب أن يتعظ من تحول الدول التي كانت في عهدة الاتحاد السوفياتي، أو في منظومة الدول الاشتراكية، نحو الغرب، وليس نحو روسيا، لكن الرجل المسكون بالماضي، وبالغطرسة لن يبالي بشيء، فهو لديه سلاح “يوم القيامة”.