بقلم: محمد السعيد إدريس – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- على الرغم من أنه من السابق لأوانه الحكم بما سوف تحققه العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا من مكاسب أو خسائر لروسيا، إلا أنه من الصعب القول إن ما كان بالنسبة إلى الأزمة الأوكرانية من فرص أمام روسيا قبل شن الهجوم على أوكرانيا، هو نفسه الآن من منظور الفرص والتحديات، ومن منظور المكاسب والخسائر، أو ما سوف يكون في المديين القصير والمتوسط.
تبدلات كثيرة حدثت في ما يمكن وصفه ب “بيئة الأزمة”. والمشاهد الراهنة التي أفرزتها، بل وفرضتها تطورات ما بعد الهجوم، تختلف كثيراً عن مشاهدها قبل ذلك، الأمر الذي بات يفرض السؤال عن مشاهد المستقبل، وبالتحديد: هل ستنجح روسيا في إعادة فرض معادلة جديدة للأمن الأوروبي تأخذ في اعتبارها مصالح روسيا؟ وعلى الأخص، إغلاق كل أبواب حلف شمال الأطلسي “الناتو”، أمام أوكرانيا، وحظر نشر قوات أو أسلحة في الدول التي انضمت للحلف بعد مايو/ أيار عام 1997، أي التوصل مع الغرب إلى ما يمكن تسميته ب”معاهدة هلسنكي – 2″، على غرار “معاهدة هلسنكي- 1” لعام 1975 التي اعترفت بموجبها الدول الغربية، بحكم الأمر الواقع، التي نتجت عن التدخلات السوفييتية في شرق ووسط أوروبا، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي المقابل وافق الاتحاد السوفييتي حينذاك على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وانضم إلى معاهدة مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي المكلف بتنفيذ هذه الالتزامات؟
كان هذا السؤال يطرح لأن بيئة الأزمة قبيل الهجوم الروسي على أوكرانيا كانت أميل إلى القبول به، لأن مشاهد تلك الفترة كانت في مصلحة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي ظهر متعففاً عن التورط في حرب مع أوكرانيا، على عكس المشهد السلبي للرئيس الأمريكي، جو بايدن، وإدارته التي ما فتئت تؤكد أن روسيا قررت فعلاً غزو أوكرانيا، وأنها حددت ساعة الصفر لبدء الاجتياح.
واستطاع الرئيس الروسي، بفضل حسن إدارته للأزمة الأوكرانية قبل الاجتياح، وبفضل الإخفاق الأمريكي في إدارتها وتعمّد الآلة الإعلامية الأمريكية التهويل من خطر “الغزو الروسي” لأوكرانيا، أن يحقق جانباً كبيراً من أهدافه حين وقف الرأي العام العالمي شاهداً على تدافع الحكام الأوروبيين نحو روسيا للتباحث مع الرئيس الروسي، أو التحادث الهاتفي معه. مشاهد كانت تؤكد يوماً بعد الآخر أن الشرخ يتسع بين أوروبا والولايات المتحدة، وأن مكانة الولايات المتحدة تتداعى، ليس مع الحلفاء الأوروبيين فقط، ولكن أيضاً أمام العالم.
وتولد إدراك عند الأوربيين، وعلى الأخص عند الألمان والفرنسيين، أن الولايات المتحدة تصر على توريط روسيا في حرب مع أوكرانيا للحيلولة دون أي تقارب أوروبي مع روسيا، وعلى الأخص، أي تقارب ألماني مع روسيا، باعتبار أن ألمانيا هي مركز ثقل القوة الأوروبية، وأن أية تحولات في العلاقات الألمانية- الروسية باتجاه التقارب والتعاون الاقتصادي عبر الغاز، خاصة خط “نورد ستريم – 2” الروسي عبر ألمانيا، وخطر تحوله مستقبلاً إلى شراكة استراتيجية روسية- ألمانية، يمكن أن تتحول في المستقبل إلى شراكة روسية- أوروبية، ومن ثم تزعزع الرابطة الأطلسية لمصلحة الرابطة الأوراسية التي تجمع روسيا مع أوروبا. هذا الإدراك أخذ يفرض نفسه لدرجة حديث البعض أن ألمانيا هي جوهر الأزمة الراهنة بين الولايات المتحدة وروسيا، وليست أوكرانيا.
التباعد في إدراك جوهر الأزمة الأوكرانية، بين الأوروبيين والأمريكيين، وصل إلى درجة تشكيك وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، أمام مؤتمر ميونيخ للأمن (19/2/2022) في الكثافة الدعائية الأمريكية حول حتمية حدوث الغزو الروسي لأوكرانيا، ودعت إلى “عدم التكهن بنوايا روسيا حيال أوكرانيا”.
في الوقت نفسه، أسفر تواصل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عن الاتفاق على “ضرورة خفض التصعيد”، وإعادة تفعيل “صيغة نورماندي” التي تجمع روسيا وألمانيا وفرنسا وأوكرانيا من أجل حل الأزمة على أساس من “اتفاقيات مينسك” لعامي 2014 و2015، أي حصر إدارة الأزمة بالدول الأربع، ما يعنى استبعاد الطرف الأمريكي.
والآن، وبعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، تبدل المشهد تماماً، تحولت ما كانت يسمى “افتراءات” أو “أكاذيب” حول “حتمية الغزو” إلى حقائق، ما أدى إلى انقلاب في تقديرات المجتمع الدولي الذي تأكد في اجتماعي مجلس الأمن الدولي الأخيرين، حيث اضطرت روسيا إلى استخدام حق النقض “الفيتو”.
الأمر الأسوأ، هو ما حدث من تغيير فى عقيدة ألمانيا العسكرية على لسان المستشار الألماني، أولاف شولتس، في اتجاهين، الأول عودة ألمانيا إلى سياسة التسلح ورفع الميزانية العسكرية لإعادة تسليح الجيش الألماني وتزويده بمعدات متطورة، والثاني تقديم كميات كبيرة من الأسلحة المتطورة إلى الجيش الأوكراني. أي أن ما فشل فيه الرئيس الأمريكي من الوقيعة بين ألمانيا وفرنسا قبل الغزو، نجح فيه بوتين بسبب الاشتباك مع كييف، ليبقى التحدي قائماً: هل مازال في مقدور الرئيس الروسي تخليق الفرص والإفلات من تبعات “الأزمة الأوكرانية”؟