بقلم: طوني فرنسيس – اندبندنت العربية
الشرق اليوم- كان الرئيس الأمريكي جو بايدن تنبّأ بأن يوم السادس عشر من الشهر الحالي سيكون يوم الغزو الروسي لأوكرانيا. وقبل ذلك بأيام، كانت الخارجية البريطانية تكشف استناداً إلى أجهزة استخباراتها أسماء الشخصيات الأوكرانية التي ستعيّنها روسيا بعد غزوها لإدارة شؤونها. واستمر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في وساطته على الرغم من جلوسه المضحك إلى طاولة الكرملين الطويلة ومثله فعل المستشار الألماني أولاف شولتز .
رفض الرئيس الروسي بإصرار كل الأخبار التي تتهمه بالإعداد لغزو جارته الجنوبية واعتبر ما يقال جزءاً من الحرب الأمريكية ضد بلاده. وعشية إطلاقه الهجوم، أعلن عن انتهاء تدريبات لعشرات الألوف من جنوده ولم يُلاقِ بايدن في موعد 16 فبراير( شباط) بل أرسل، في اليوم التالي، وزير دفاعه سيرغي شويغو في زيارة تفقدّية للقوات الروسية في سوريا التي كانت تجري تدريبات بحرية بمشاركة 15 سفينة بينها طرادات وقاذفات استراتيجية وبوارج سُمّيت بـ”قاتلات حاملات الطائرات”، في إشارة إلى حاملات الطائرات الأمريكية والغربية المنتشرة في مياه البحر المتوسط.
كانت أوروبا وأمريكا مقتنعتين بأن روسيا ستهاجم أوكرانيا، ودفع بوتين التحدي إلى أقصاه. لم تعُد كييف في السياسة الروسية عاصمة لبلد جار، بل عنواناً لعدوان أمريكي متمادٍ. ليست أوروبا من يتم اتهامها في الأدبيات السردية الروسية وإنما أمريكا. أوروبا تحوّلت إلى كيانات ضعيفة تتحكم فيها موسكو بالغاز والتجارة، فيما باتت أمريكا شيطانها الأكبر كما يهتفون في طهران وأزقة صنعاء وبيروت وعواصم أخرى.
ومع أن أمريكا قد تكون الدولة الكبرى الوحيدة في العالم التي لم تدخل يوماً في حرب مع روسيا القيصرية أو السوفياتية أو الاتحادية، إلا أنها الآن عدو روسيا الأكبر. هذا ما يراه ويقرره الرئيس بوتين بعد معايشته تجربة انهيار الاتحاد السوفياتي في “أكبر كارثة جيوسياسية” كما قال يوماً، وبعد معاينته تمدّد حلف الأطلسي إلى داخل مناطق النفوذ الروسية التي تم تحديدها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بما يكرّس الهزيمة الروسية – السوفياتية ويلغي نتائج الحرب الوطنية العظمى والوعود التي أُعطيت في باريس لآخر زعيم سوفياتي عام 1990، عندما قال قادة الغرب لغورباتشوف إنه لن يتم التمدد شرقاً وسينشأ نظام عالمي جديد يقوم على التوازن ومبادىء السلام. مرّت عقود ثلاثة على عالم ما بعد انهيار الإمبراطورية السوفياتية.
العقد الأول مضى في الفوضى والانهيار الاقتصادي وصعود المافيات، والثاني بدأ ببروز بوتين كمحارب في الشيشان وانتهى بتجربة أولى مع التمدد الغربي إلى جورجيا، تمكّن بوتين خلالها من اقتطاع أوسيتيا وأبخازيا من دون ردود غربية تذكر. في العقد الثالث اللاحق للانهيار السوفياتي، بدا بوتين أكثر ثقة بنفسه وبقدراته. ضمَّ القرم، ثم أرسل جيوشه إلى سوريا وقوات خاصة (فاغنر) إلى ليبيا وحلّ محل الفرنسيين في مالي ووسط أفريقيا. وفي القوقاز، بدا شرطياً ووسيطاً قوياً في الحرب التركية الأذرية ضد الأرمن، وأرسل قوات تهدئة إلى بيلاروس وكازاخستان، فيما كان يُرسي علاقات متقدمة مع الصين ودول “بريكس” ومنظمة شنغهاي، وصولاً إلى تفاهمات وعلاقات متطورة مع دول الخليج العربي وإيران وتركيا…
بدا بوتين مستعداً لدخول العقد الرابع ما بعد أفول الإمبراطورية السوفياتية بقوة وتصميم. العنوان كان دائماً السياسة الأمريكية، وأمريكا بدت في أسوأ حالاتها بعد انسحابها المخزي من أفغانستان وعلاقاتها المتردية مع أوروبا واهتزاز الثقة بها في العالم العربي وأنحاء أخرى، لكنها بقيت مواظبة على رهان التمدد السياسي والعسكري في الخاصرة الروسية من البلطيق إلى البحر الأسود.
لم تكُن أوكرانيا بحاجة للانضمام إلى حلف الأطلسي كي تضمن استقلالها. هي حرّة في خياراتها ورغبتها بالتقدم والازدهار، لكن الخيارات الأطلسية لم تكُن يوماً شرطاً. ففي عمق أوروبا، دول ديمقراطية مزدهرة من دون أن تنتمي إلى حلف يعاني “موتاً سريرياً” كما قال ماكرون، ومن تلك الدول النمسا وسويسرا والسويد وفنلندا، وكلها تُصنّف بين الدول الديمقراطية المستقرة والمزدهرة. كان يمكن لأوكرانيا أن تنتمي إلى مدرسة تلك الدول في معالجة شؤون موقعها ومستقبلها، من دون الانجرار إلى أوهام الغرب وخطبه التحريضية، لكن هذا الكلام لا يعني أبداً إعطاء الحق لبوتين في احتلال بلد وتغيير حكامه وإلحاقه وهضمه، لأسباب يضعها هو في خانة المعركة المفتوحة مع أميركا.
تعرّضت روسيا في تاريخها الطويل لاعتداءات وخاضت حروباً مع الفرنسيين والألمان والنمساويين والأتراك، وتقاتلت مع الفرس واليابانيين، واستمرت 40 عاماً في حالة اشتباك حدودي مع الصين، ولم تخُض حرباً مباشرة ضد الأميركيين، حتى خلال الحرب الكورية، لكنها الآن قررت اجتياح أوكرانيا لأخذ حقها بيدها… من هؤلاء!
لم يعُد الخلاف الروسي الأوكراني شيئاً يذكر تجاه حجم الاجتياح وأهدافه المعلنة. كان ضم القرم في 2014 نموذجاً وامتحاناً لردود الفعل العالمية، ومن ثم جاء تأسيس جمهوريتي الدونباس بوصفه امتحاناً إضافياً، والآن تتحوّل أوكرانيا كلها إلى دونباس سيوضع على طاولة التفاوض الدولية في وقت مناسب، مهما طال الانتظار وعلى الرغم من فداحة الخسائر.
يريد بوتين اتفاقاً مع الأمريكيين وليس مع أي طرف آخر. أرهقه هؤلاء بسياسة توسيع حلف الأطلسي على حدوده وباستدراجهم أوكرانيا وجورجيا إلى ذلك الحلف. فطرح في المقابل احتلالاً كاملاً لأوكرانيا يتضمن إقامة سلطة جديدة نقيضة للسلطة المنتخبة القائمة. بمعنى آخر، أراد ضم أوكرانيا إلى روسيا وإضافتها إلى سلسلة جمهوريات الحكم الذاتي في الجمهورية الاتحادية. فإذا نجح في حربه، سيفاوض من موقع القوة وإذا فشل، سيتحوّل إلى غازٍ يتعرّض لضربات متلاحقة قد تحدد مصيره الشخصي في زمن لاحق .
يشبه الغزو الروسي لأوكرانيا أحداثاً سابقة لم يتعلم منها أصحاب مشاريع الغزو. كان احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان مطلع عام 1980 غزواً، تم بتسميم الحاكم نجيب الله أمين بواسطة طباخ الاستخبارات السوفياتية. قبله بنحو عام، غزت الصين الشيوعية فيتنام الشيوعية الخارجة من حرب طويلة مع الاحتلال الأمريكي. بعد 20 عاماً، ستحتل أمريكا أفغانستان لتخرج مهزومة قبل سنة. وسيعقب احتلالها لذلك البلد، غزو للعراق يحدث زلزالاً في العالم والمنطقة.
صدام حسين، الرئيس العراقي الأسبق جرّب حظه في غزوة الكويت التي تحتفل هذه الأيام بذكرى طرده، كذلك رفيقه اللدود في مدرسة حزب البعث حافظ الأسد، سبقه إلى اجتياح لبنان في مهمة سلام مؤقتة لن تنتهي قبل ثلاثين عاماً، إلا بانتفاضة لبنانية ضدها .
لم يتعلم الغزاة ولا القادة الآخرون من تجارب نصف قرن مضى. كانت الأمم المتحدة قامت لمعالجة خلافات الدول وضمان السلم العالمي. لكنها في مواجهة الأحداث المذكورة وغيرها من القضايا، بدت مشلولة وعاجزة. واليوم أيضاً، في خضمّ أزمة دولية يهتز لها العالم، تبدو المنظمة الدولية هيكلاً لا فائدة منه، مثلها مثل هياكل أخرى تحتاج تفعيلاً وإنعاشاً، ومنها الاتحاد الأوروبي نفسه وحلف الأطلسي ومجموعة الثماني وبقية المنظمات الإقليمية، بما في ذلك جامعة الدول العربية التي تمثل بلداناً تقع على مقربة من ساحة المعركة الدائرة.
ستنتهي معركة أوكرانيا بدمار وخسائر. لن تنتصر روسيا في الحرب، ولن يحقق متطرفو أوكرانيا، وهم قلّة لم تفُز بأي موقع في الانتخابات العامة، أهدافهم وشعاراتهم المعادية للروس. سيعود الجميع إلى التفاوض، لكنه تفاوض لا معنى له إذا لم يُقَرّ حق الشعوب في خياراتها لمستقبلها، وحاجة هذه الشعوب إلى تجديد في حياة المؤسسات الدولية الناظمة لعيش مواطني الكوكب بسلام.
بهذا المعنى، قد يكون لحرب أوكرانيا عندما تنتهي، ولا نعرف متى وكيف، إيجابية قصوى لدى الإقرار بضرورة نظام جديد لإدارة شؤون العالم، على أنقاض مرحلة مخاض طالت كثيراً وأرهقت البشرية بأثقالها وخسائرها .