بقلم: يونس السيد – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- لم تكن الحرب المشتعلة بين روسيا وأوكرانيا، منذ أيام، سوى الوجه الآخر لعملية تفاوض بدأت منذ وقت طويل، بحثاً عن حل أو تسوية سياسية للأزمة الناشبة بين روسيا والغرب أصلاً قبل أن تنتقل إلى مرحلة التفاوض بالنار على الأراضي الأوكرانية.
فالحرب، بهذا المعنى، هي شكل من أشكال التفاوض بالنار، لتحقيق أهداف سياسية، في الأغلب يدفع ثمنها، للأسف، المدنيون، وبالتالي فإن أول بند يُطرح على جدول أعمال المفاوضات، هو الوقف الفوري لإطلاق النار.
في الحالة الأوكرانية، يبدو الأمر مختلفاً، فقد جرت جولة أولى من المفاوضات بين وفدين (روسي وأوكراني) على الحدود البيلاروسية في ظل عمليات قصف بالطائرات والصواريخ والمدافع والدبابات، وترافقت مع تصعيد دراماتيكي بوضع موسكو ترسانتها النووية في حالة تأهب. فما الذي يعنيه ذلك؟
من المؤكد أن روسيا لا تستهدف قصف أوكرانيا بالسلاح النووي؛ ذلك أن موازين القوى مختلة بشكل كبير لمصلحة الجانب الروسي حتى بوجود الدعم الغربي الهائل، ناهيك عن العقوبات وتداعياتها، والتي تمثل في جوهرها نوعاً من الحرب بالوكالة تقوم بها أوكرانيا نيابة عن الغرب. بهذا المعنى أيضاً، فإن الاستنفار النووي هو رسالة إلى الغرب، ويأتي استكمالاً للمفاوضات التي بدأتها روسيا منذ وقت طويل حول الضمانات الأمنية ومصالحها الحيوية المعلنة في وقف توسع حلف “الناتو” شرقاً، والتعهد بعدم قبول عضوية أوكرانيا في الحلف، لكون ذلك يمثل تهديداً مباشراً لأمنها القومي.
على الجانب الآخر، يرى الغرب أن من حق الدول التمسك باستقلالها وسيادتها وحريتها في اختيار الوسائل اللازمة للدفاع عن أمنها والانضمام إلى حلف “الناتو” أو أي تكتل غربي تختاره، فيما يرى الجانب الروسي أن الأمن يجب أن يكون للجميع وليس لطرف على حساب طرف آخر. وبالمحصلة، فإن تجاهل الغرب للمطالب الروسية، وإصرار موسكو على ما تعده مصالحها الحيوية وأمنها القومي، جعل من تلك المفاوضات أشبه ب”حوار الطرشان”، ليستعاض عنه بعد حين بالقصف الكارثي بالصواريخ والمدافع والدبابات، وحتى الاستنفار النووي فهو جزء من رفع درجة حرارة الحوار، وإن كان يحمل مخاطر كارثية على البشرية جمعاء.
لا يبدو أن المسألة تتعلق بأوكرانيا وحدها؛ إذ حتى لو نجحت موسكو وكييف في التوصل إلى حل يقوم على حياد أوكرانيا، وهو خيار مطروح، وإلى تسوية للمناطق المتمردة أو الانفصالية، فإن ذلك لن ينهي المشكلة، ما لم يتم إطلاق حوار حقيقي وجدي بين موسكو وواشنطن وشركائها الأوروبيين، والتوصل إلى تسوية تقوم على أخذ المصالح الحيوية والأمنية لكل الأطراف بعين الاعتبار، وعلى قدم المساواة، مع المحافظة على حق جميع الدول في السيادة والاستقلال. وهنا لا بد من التذكير بأن روسيا التي اضطرت عام 1991 للقبول بكل الاتفاقات التي سمحت باحتواء حلف “الناتو” لمعظم الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي ثم وريثه روسيا، لم تعد كذلك اليوم ضعيفة ومشتتة، لأنها ببساطة تحولت إلى دولة قوية، وقادرة استراتيجياً على مقارعة الغرب في كل المجالات.