بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- تتطور تداعيات الأزمة بين أمريكا وروسيا، وتكتنفها حالة من الغموض، فبعد أن لاحت بوادر التوصل إلى قدر من التهدئة في الأزمة، فإنها ما لبثت أن اندفعت ناحية التصعيد، مقتربة من حافة الهاوية. وإن ظلت مرابطة وبحرص على مسافة بعيدة إلى حد كبير من الحافة.
هذا الغموض الذي يتبعه طرفا النزاع ليس مجرد افتراض نظري، لكنه توصيف لسياسات معترف بها من جانب مؤسسات صناعة القرار في القوى الكبرى، وتعرف باسم “الغموض الاستراتيجي”، ويعد “الغموض الاستراتيجي” من أدوات السياسة الخارجية، لتحقيق قدر مرغوب فيه من الاستقرار والانضباط للمواجهات بين القوى الكبرى، حتى لا تتحول الأزمات إلى صدام مسلح، لا يخدم مصالح أي طرف منهما في النهاية.
وقبل الخوض في وقائع جرى فيها تطبيق منظومة الغموض الاستراتيجي، فإن الأمر يحتاج إلى نظرة لكيفية إدارة طرفي الأزمة حول أوكرانيا، وما يتصل بها من لعبة الغموض الاستراتيجي.
يقول محللون أوروبيون: إن ما يجري هو جزء من لعبة استراتيجية، يلعبها الطرفان كل على طريقته.
وفي واشنطن يصدر “معهد أمريكان إنترابرايز” تقريراً يقول: إنه لا يجب أن يغيب عنا أن الدول التي تسعى إلى إثارة مخاوف خصومها، فهي تحرص في الوقت نفسه على تجنب استخدام الوسائل العسكرية.
ثم يصف مسؤول كبير بالبيت الأبيض ما يجري بأنه نوع من لعبة استراتيجية.
وتكاد تكون وجهات النظر هذه على اختلاف مصادرها، تدور حول أبعاد لعبة الغموض الاستراتيجي، والتي أشار إليها محللون غربيون بتعبير “Hybrid Warfare”، ووصفهم لها بأنها حرب مفتعلة في إشارة منهم إلى الأسلوب الذي تستخدمه روسيا كجزء أساسي في إدارتها للصراع. ويربط هؤلاء الصراع الجاري بين روسيا والغرب، بنظرية المؤامرة، التي اعتبروها جزءاً من إدارة الأزمة بين الجانبين.
وبدا أن شرح هذه الأجواء للأزمة التي نشبت بسبب حالة أوكرانيا، تنعكس عليها مواقف تتعلق بالسياسات الأمريكية، أشار إليها تقرير مطول سبق صدوره عن كلية الحرب الأمريكية بعنوان: “تعزيز سياسات الغموض الاستراتيجي”، وجاء فيه أن السياسة الأمريكية في منطقة الباسفيك، كانت قد اتبعت سياسة الغموض الاستراتيجي، للإبقاء على الوضع القائم هناك، حفاظاً على ما تحقق لها من رخاء واستقرار. وإن مبادئ الغموض كانت واضحة في تفادي الولايات المتحدة، التورط في صدامات مباشرة مع جمهورية الصين، لأنها أدركت أن الوضع المستقر نسبياً للعلاقة بينهما، يخدم مصالحها.
واتصالاً بهذا التقرير، فقد صدر في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، دراسة للخبير السياسي دنيس هايكي بعنوان: “بايدن والغموض الاستراتيجي تجاه تايوان”، يقول فيها: إن أمريكا لم يكن لديها التزام أمني قاطع بالدفاع عن تايوان، فهي قد أبرمت في عام 1979 معاهدة مع الصين بإقامة علاقات دبلوماسية بينهما. وفي محاذاة نمو هذه العلاقات، حرصت على اتخاذ خطوات التعاطف والتأييد تجاه تايوان، لكنها ظلت في أغلبها رمزية الطابع، محملة بالغموض والتناقضات، بما يخدم المصالح الأمريكية.
كما أن نيكولاس بيرنز الذي اختاره بايدن سفيراً في بكين، قد أوضح أن الغموض الاستراتيجي، هو الطريق الأفضل لمنع نشوب حرب عبر مضيق تايوان.
وليس ببعيد عنا، ما كان قد تعرض له مؤتمر مراجعة حظر الانتشار النووي المنعقد في نيويورك في أواخر مايو/ أيار 2010، لسياسة الغموض الاستراتيجي التي تتبعها إسرائيل بالنسبة لبرنامجها النووي، بالاتفاق مع الولايات المتحدة؛ حيث لا تعلن عنه أو تعترف بوجوده. ويومها ولد ما عُرف بسياسة الغموض أو عدم الشفافية.
بدا على ضوء هذه الوثائق التاريخية، أن السياسات المتبعة الآن حول أزمة أوكرانيا، تعكس عدم رغبة أي من الطرفين إشعال حرب واسعة بسببها. ويدرك الطرفان أن العالم يمر بمرحلة تجري فيها مراجعة النظام الدولي القائم، وهي مرحلة عادة ما تطوقها التوترات والأزمات، وتتطلع فيها أمريكا لتكون لها الهيمنة على النظام القادم، وتتمسك روسيا من ناحيتها بأن تكون شريكاً، يُعمل حسابه في إدارة النظام الدولي الجديد.