بقلم: توماس فريدمان – The New York Times
الشرق اليوم- حين يندلع صراع كبير مثل الدائر حول أوكرانيا الآن، يسأل الصحفيون أنفسهم دائماً “مع أي جانب يجب أن أقف؟” مع كييف؟ موسكو؟ ميونيخ؟ واشنطن؟ وفي هذه الحالة، لا يتضمن جوابي أياً من هذه. فالمكان الوحيد لفهم هذه الحرب يوجد داخل رأس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أقوى زعيم روسي دون رادع منذ ستالين، وتوقيت هذه الحرب هو نتاج طموحاته واستراتيجياته ومظالمه. لكن على الرغم من كل هذا، أميركا ليست بريئة تماماً من إذكاء نيران هذه الحرب.
ويتعين علينا فحص الأمرين. فمعظم الأمريكيين لم ينتبهوا كثيراً لتوسع حلف شمال الأطلسي (ناتو) في أواخر تسعينيات القرن الماضي والسنوات الأولى من العقد الأول في القرن الحالي. فقد توسع الحلف في دول بشرق ووسط أوروبا مثل بولندا والمجر وجمهورية التشيك ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا، وهذه الدول كان جميعها جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق أو مجال نفوذه. ولا غرابة في أن ترغب هذه الدول في أن تكون جزءاً من تحالف يلزم الولايات المتحدة بالدفاع عنها في حالة هجوم من روسيا التي خلفت الاتحاد السوفييتي.
الغريب تمثل في السبب الذي يجعل الولايات المتحدة تختار دفع الناتو سريعاً نحو التقدم في مواجهة روسيا حين كانت ضعيفة. فقد حلمت الولايات المتحدة طوال الحرب الباردة بأن تشهد روسيا يوماً ما تحولات ديمقراطية، وأن يحاول زعيم فيها الانضمام إلى الغرب. وطرح مجموعة صغيرة جداً من المسؤولين وخبراء السياسة، كاتب المقال من بينهم، في ذاك السؤال نفسه، لكن لم ينتبه أحد. الصوت الوحيد والأهم في قمة إدارة كلينتون الذي طرح هذا السؤال لم يكن سوى وزير الدفاع بيل بيري. ففي مؤتمر لصحيفة الجارديان عام 2016، تحدث بيري متذكراً هذه الفترة قائلاً: في السنوات القليلة الماضية، يمكن توجيه معظم اللوم إلى الإجراءات التي اتخذها بوتين. لكن في السنوات الأولى يجب أن أقول إن الولايات المتحدة تستحق الكثير من اللوم. كان أول عمل اتخذناه حقاً دفع بنا في اتجاه سيئ وهو عندما بدأ الناتو في التوسع، وضم دول من أوروبا الشرقية، بعضها على حدود روسيا.
في ذاك الوقت، كنا نعمل عن كثب مع الروس وبدأوا يعتادون فكرة أن الناتو قد يكون صديقاً وليس عدواً. لكنهم لم يرتاحوا للغاية لوجود الناتو مباشرة على حدودهم وقدموا حجة قوية على ألا نمضي قدماً في هذا. في الثاني من مايو 1998، ومباشرة بعد أن صادق مجلس الشيوخ على توسع الناتو، اتصلت بجورج كينان، مهندس احتواء أمريكا الناجح للاتحاد السوفيتي. فقد انضم كينان إلى وزارة الخارجية عام 1926، ثم عمل سفيراً للولايات المتحدة في موسكو عام 1952.
ويمكننا القول إن كينان كان أعظم خبير أمريكي في شؤون روسيا. وعلى الرغم من أنه كان يبلغ 94 عاماً من العمر وكان صوته ضعيفاً حين تحدثت إليه بشان رأيه في توسع الناتو، كان ذهنه حاداً. وأنقل لكم هنا إجابته كاملة. فقد قال جورج كينان: “أعتقد أنها بداية حرب باردة جديدة وأن الروس سيردون تدريجياً بشكل معاد وسيؤثر هذا على سياساتهم. أعتقد أنه خطأ مأساوي. ما من سبب لهذا على الإطلاق”. لم يكن أحد يهدد آخر. هذا التوسع سيجعل الآباء المؤسسين لهذا البلد (الولايات المتحدة) يتململون في قبورهم. لقد قبلنا حماية مجموعة كاملة من البلدان، على الرغم من عدم امتلاكنا الموارد ولا النية للقيام بذلك بأي طريقة جدية.
كان (توسع الناتو) ببساطة إجراء نزقاً من مجلس شيوخ لم يكن مهتماً حقاً بالشؤون الخارجية. وضايقني مدى السطحية وضعف المعلومات في نقاش مجلس الشيوخ برمته. وأزعجني بشكل خاص الإشارات إلى روسيا كدولة تتحرق لمهاجمة أوروبا الغربية. ألا يفهم الناس؟ لقد كانت خلافاتنا في الحرب الباردة مع النظام الشيوعي السوفييتي. والآن ندير ظهورنا للأشخاص الذين قاموا بأكبر ثورة غير دموية في التاريخ لإزالة ذاك النظام السوفييتي.
وأن الديمقراطية في روسيا متقدمة- إن لم تكن أكثر تقدماً- بقدر تقدمها في أي من هذه البلدان التي قبلنا للتو للدفاع عنها ضد روسيا. بالطبع سيكون هناك رد فعل سيئ من روسيا، وبعد ذلك سيقول (دعاة توسيع الناتو) إننا أخبرناكم دوماً بأن هذا هو حال الروس – لكن هذا خطأ وكفى. إنه بالضبط ما حدث. وبالطبع لم يكن من المؤكد أن تتحول روسيا بعد الحرب الباردة إلى نظام ليبرالي، كما فعلت ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. والواقع، ونظراً لخبرة روسيا الضعيفة مع الديمقراطية، فقد كان هذا بعيد المنال. لكن بعضنا اعتقد حينذاك أنه كان مطلباً بعيد المنال يستحق المحاولة، لأن احتواء، وليس استبعاد، روسيا الأقل ديمقراطية في نظام أمني أوروبي جديد، ربما كان يجعلها أقل اهتماماً أو تحفزاً بكثير في تهديد جيرانها.
لكن لا شيء من هذا يسوغ، بالطبع، تفكيك بوتين لأوصال أوكرانيا. وخلال ولايتي بوتين الأولين كرئيس- 2000 -2008 – تذمر من حين إلى آخر من توسع الناتو لكنه اكتفى بذلك غالباً. وحينذاك كانت أسعار النفط مرتفعة وارتفعت معها شعبية بوتين محلياً، لأنه كان يقود النمو المتصاعد لدخول الروس الأفراد بعد عقد من إعادة هيكلة وفقر مؤلمين في أعقاب انهيار الشيوعية. لكن على مدار العقد الماضي، مع ركود الاقتصاد الروسي، كان يتعين على بوتين إما الشروع في إصلاحات اقتصادية أعمق، قد تضعف سيطرته الرأسية على البلاد، أو أن يعزز أسلوب حكمه القائم على فساد ومحسوبية الرأسماليين. وأوضح ليون آرون، الخبير في الشأن الروسي في “معهد أمريكان إنتربرايز” أن بوتين لجأ للخيار الأخير
وآرون هو مؤلف كتاب “يلتسين: حياة ثورية”، ويؤلف حالياً كتاباً عن مستقبل روسيا في ظل قيادة بوتين. ويؤكد آرون أن بوتين نقل قاعدة شعبيته من “كونه موزعاً لثروة روسيا المكتشفة حديثاً ومصلحاً اقتصادياً إلى كونه المدافع عن الوطن الأم”، في مسعى لتزيين هذا الخيار والإلهاء. ويرى آرون أن بوتين حين اختار أن يصبح، لأسباب سياسية محلية، منتقماً قومياً و”رئيساً في زمن الحرب”، كان ينتظره أن يتلقف التهديد الأكثر استثارة للمشاعر لحشد الشعب الروسي خلفه وهو “ثمرة توسع الناتو الدانية”.
واستغل هذا منذئذ، على الرغم من علمه أن الناتو لا ينتوي التوسع ليشمل أوكرانيا. وعادة، ترد الدول والزعماء على الإهانة بإحدى طريقتين، إما العدوان أو تأمل الذات. فالصين، بعد ما اعتبرته “قرن الإذلال” من الغرب، ردت في عهد دينج شياو بينج بالقول بشكل أساسي “سنريكم. سنهزمك في لعبتكم الخاصة”. وعندما شعر بوتين بالإهانة من الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيييتي وتوسع الناتو، أجاب بالقول: “سنريكم. سأقهر أوكرانيا”. صحيح أن الأمر أكثر تعقيداً من هذا، لكني أود القول: هذه حرب بوتين. لكن أمريكا والناتو ليسا مجرد متفرجين أبرياء مما أصبح عليه.