بقلم: مصطفى الفقي – إندبندنت عربية
الشرق اليوم – لم يكد العالم يفرغ من هواجس وباء كورونا ومتحوراته إلا ليدخل في أجواء حرب اشتعلت منذ أيام بعد التدخل الروسي في أوكرانيا، ومحاولة تحقيق رغبة الرئيس بوتين في إحاطة بلاده بحزام من دول موالية بحيث لا يكون هناك وجود لـ “الناتو” في الدولة المجاورة بأوكرانيا، ولا وجود لقواعد غربية على سواحل البحر الأسود، وبذلك فإن العالم يشعر بالقلق الشديد الذي يصل إلى حد المخاوف من توسيع نطاق الحرب وانتشار المواجهة في الجناح الشرقي للقارة الأوروبية، خصوصاً أن معظم اقتصادات دول العالم تبدو منهكة نتيجة المرور بعامين شديدي القسوة في مواجهة وباء استشرى في كل مكان ووصل إلى كل بيت وأسرة في أنحاء العالم.
حين بدأنا نتحدث عن الأوبئة وتاريخها وننسى الحروب العالمية ومآسيها كأنما شاء القدر أن تلتقي مصادر القلق ودوافع الخوف لتحاصر الجنس البشري في مرحلة حرجة من تاريخه وفترة شديدة الحساسية بالغة التعقيد من عمر الزمن، وإذا كان من الصعب التنبؤ بما هو مقبل، إلا أنه من اليسير قراءة المستقبل على ضوء ما جرى ويجري في العامين الأخيرين حتى وقر في ذهن البعض أن هناك قوى بشرية شريرة تسعى لتوريط العالم في مشكلات قاتلة وأزمات خانقة تحاصر إنسان العصر الذي يستمتع بالاختراعات الحديثة والتقنيات المتقدمة، ولكنه يدفع على الجانب الآخر فاتورة غالية من أمنه واستقراره، فكلما تقدمت البشرية حملت بين ثنايا ذلك التقدم أسباب تدهورها وعوامل فنائها، فإذا أخذنا سباق التسلح كمثال فسنجد أنه ساحة طويلة المدى لمحاولات محمومة لحيازة أسلحة الدمار الشامل التي لا يقف أمرها عند اعتبارها قوة ردع دون استعمال، ولكنها تتجاوز الأمر كله لتصبح أداة لتهديد الأمن والسلم الدوليين في كل وقت، وها هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعيد إلى الأذهان ذكريات الحرب العالمية الثانية بخطابه المطول الذي لا يعترف فيه بالحقوق الأوكرانية في ممارسة إرادة شعبها واختيار سياستها دون ضغوط روسية أو إملاءات من الكرملين الذي يحاول استعادة الحقبة السوفياتية، ويستحيل عليه أن يقبل وجود قوات “الناتو” على حدوده إذا انضمت أوكرانيا إلى ذلك الحلف، فالرئيس الروسي يتصرف بعقلية تتميز بالإصرار الشديد بأن ما يفعله هو محاولة لاستعادة أمجاد بلاده في فترات ازدهارها، وهاهو يقرع الأجراس ترغيباً وترهيباً حتى يدرك الجميع أن موسكو غير هازلة ومصممة على ما تمضي فيه، ويهمني هنا أن أسجل بعض الأفكار المرتبطة بهذا الحدث الضخم.
أولاً: إن موقف الولايات المتحدة الأميركية الداعم لأوكرانيا سياسياً لن يتحول لدعم عسكري مباشر من جانب واشنطن في الحرب التي تدور بين روسيا وأوكرانيا، إلا من خلال دعم بعض أنشطة “الناتو” في هذا السياق، فالولايات المتحدة لا تدخل حروباً مباشرة، ولكنها تدخلها بالوكالة وفي ظل ظروف تشعر فيها بالتهديد المباشر لها أو لحلفائها، وقد بدا من حديث بايدن في الأسابيع الماضية أنه لن يدخل في مواجهة عسكرية مع روسيا، وهو أمر مفهوم من قراءة التاريخ وسياق الأحداث، ولكن المساس ببعض دول الجوار الروسي من المنتمين لـ”الناتو” أو الساعين له سيؤدي إلى حالة من الحرج لدى واشنطن وحلفائها الغربيين، ما لم تعوض ذلك بإمدادات من السلاح والعتاد الحربي، بل وربما بالأفراد أيضاً من خلال الوجود في ميادين القتال على الساحة الأوكرانية، فضلاً عن ضغوط اقتصادية خانقة يسعى بها الغرب لردع بوتين ووضع حد للطريق الذي يمضي فيه.
ثانياً: لا يختلف موقف الدول الغربية كثيراً عن موقف واشنطن سوى أن هذه الحرب تقع على أرض أوروبية، وتتشابك فيها المصالح على نحو غير مسبوق، فضلاً عن أن “الناتو” الذي يضم الولايات المتحدة الأميركية أيضاً إنما يتمركز فوق الأقاليم الأوروبية، وكان يسعى لضم أوكرانيا وإقامة قاعدة عسكرية كبيرة فيها، بحيث تكون رأس حربة في أي عمل عسكري تفكر فيه موسكو تجاه جيرانها، ولكن بوتين يحاول أن يسبق الجميع ويلتهم أوكرانيا التي يرى أنها كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، ولا يمكن أن تنقلب عليه حليفة لخصومه أو لأعدائه، وهو بذلك يمضي بمخطط يتجاهل فيه إلى حد كبير ردود الفعل الدولية والأوروبية، ويتوهم أن باستطاعته أن يعيد عقارب الساعة للوراء، وأن يحدد شكلاً يريده لخريطة أوروبا الشرقية.
ثالثاً: إن العمق الصيني بقدراته الهائلة وإمكاناته الضخمة يقف داعماً للقومية الكبرى المجاورة وأعني بها روسيا، فضلاً عن العداء الدفين لدى الدولة الصينية للدول الغربية عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، من خلال درسي كوريا وفيتنام، لا يمكن أن يسلم بإضعاف روسيا والسيطرة على مجالها الحيوي وإطارها الإقليمي بما ينعكس على الصين ذاتها على المدى الطويل، أما بالنسبة إلى الحصار الاقتصادي الذي يزمع الغرب فرضه على الروس، فإن الصين بلا شك سوف تقف داعماً بقدر ما تستطيع في هذا الشأن. وليس من شك في أن درس تفكك الاتحاد السوفياتي ودوره في العلاقات الدولية وازدهار “الناتو” على حساب حلف وارسو كل هذه دروس تعيها كل الأطراف، ولن تسمح بتكرار تلك الخطيئة الكبرى التي وقع فيها حكام الاتحاد السوفياتي السابقون.
رابعاً: إن الأمر الذي يحتاج إلى التفكير والتأمل الهادئ يتلخص في مواقف الدول التي ترتبط بعلاقات طيبة مع روسيا وحلفائها وعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة وتوابعها، فأين يمكن أن تقف هذه الدول من هذه الحرب وتداعياتها المحتملة؟ وما هي درجة الحرج التي تشعر بها على نحو قد يهدد مصالحها، فمصر، على سبيل المثال، لها علاقات ودية مع الروس، وهم الذين سيقومون بالبرنامج النووي المصري في الضبعة، وفي نفس الوقت ترتبط مصر بعلاقات قوية مع الغرب والولايات المتحدة تحديداً، فهل سيتاح لها أن تحافظ على درجة من الحياد المقبول سياسياً لدى الطرفين؟ فضلاً عن شعور القاهرة بأنها خاسرة في هذه الحرب، خصوصاً في ما يتصل بأسعار القمح التي تعتمد مصر في استيراده على دولتي أوكرانيا وروسيا، كما أنها تستورد الذرة من أوكرانيا، فمن المتوقع أن ترتفع أسعار هذه المحاصيل الزراعية نتيجة الأوضاع التي جرت، ومصر تعد أكبر مستورد للقمح في العالم، إذ إنه الغذاء الرئيس للشعب المصري، وقس على ذلك ظروف دول أخرى كثيرة ستتعرض للمأزق ذاته، وتواجه المشكلة نفسها. فالموقف معقد وصعب ويأتي في أعقاب جائحة كورونا التي لم تلتقط هذه الدول أنفاسها من نتائجها حتى الآن، فإذا الحرب الروسية الأوكرانية تفرض واقعاً جديداً على كل الأطراف وتضعهم أمام تحد جديد ووباء مختلف.
خامساً: لقد تحدث بيل غيتس وزبانيته كثيراً حول ضرورة تحديد عدد الجنس البشري على الأرض، وقالوا إن الأوبئة والحروب الشاملة كانت تتكفل بتحديد عدد البشر فوق كوكبنا، وإن اختفاء الأمرين قد ساعد على وصول عدد الجنس البشري إلى ما يزيد على سبع مليارات نسمة، وإنه لا بد من أوبئة وحروب ليتوازن العدد مع إمكانات الأرض والبحر والفضاء، وكأنما استجابت السماء له، فلم تأت الأوبئة وحدها، ولكنها استدعت معها الحروب أيضاً، حتى يهدأ غيتس ورفاقه على حساب عذابات البشرية ومعاناة الملايين!
إنها مأساة كبرى تؤكد أن المصائب تأتي جماعات ولا تجيء فرادى، فها هو الوباء والحرب معاً يهددان حياة الإنسان خليفة الله في الأرض.