افتتاحية صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – إذا كانت الحروب تدور في مجالات السياسة والدبلوماسية، فإن مشاهدها الأخيرة فقط هي التي تدور في ميادين القتال. هذا هو واقع الحرب التي تدور الآن في أوكرانيا، بعدما بدأ الجيش الروسي عملية عسكرية واسعة من عدة جبهات ضد الأراضي الأوكرانية، قال الكرملين إنها تستهدف تحقيق أمن روسيا بالحؤول دون انضمام كييف إلى حلف «الناتو»، بعدما فشل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولف شولتس في إنجاز تسوية على طاولة المفاوضات.
إذاً، اختارت روسيا ميدان القتال لتحقيق أهدافها، على الرغم من كل التهديدات الغربية التي انطلقت من كل صوب وحدب، محذرة موسكو من العواقب.
فهل وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حسابه كل التداعيات والمخاطر المحتملة؟ وهل كان يدرك تماماً ما يفعله ووضع من أجل ذلك مسبقاً كل الاحتمالات والخطط والتداعيات؟
مجريات المعركة في الميدان تشير إلى أن الرئيس الروسي يعرف ماذا يريد، ويدرك تماماً إلى أين يمكن أن تصل الأمور، وهو وضع في الميزان كل حسابات الربح والخسارة الممكنة.
على الرغم من حق أوكرانيا في اختيار شركائها وحلفائها الاستراتيجيين كونها دولة مستقلة، إلا أنَّ عليها أن تدفع ضريبة موقعها الجغرافي الملاصق لروسيا، وعليها أن لا تعوّل على ضخامة الدعم الغربي السياسي والعسكري والاقتصادي، الذي كان سبباً في ذهاب كييف بعيداً في تحدي موسكو، وشجعتها في ذلك تهديدات غربية مبالغ فيها بتكبيد روسيا «ثمناً باهظاً وغير مسبوق»، وهو ما أدرك بوتين أنه مجرد «شيك بدون رصيد».
من المؤكد أن أوكرانيا ستكون الخاسر الوحيد في هذه المجابهة لأنها لن تجد سوى الشجب والتنديد والعقوبات الاقتصادية والمالية على موسكو، التي يبدو أنها وضعت ذلك في حساباتها قبل أن تقرر دخول المعركة، بمعنى أن الغرب سيكون عاجزاً عن تقديم أكثر من ذلك. بالمقاييس العسكرية الصرفة، لا يمكن المقارنة أبداً بين الجيش الروسي والجيش الأوكراني، لذلك فإن قدرة موسكو على تحقيق أكبر مكسب ميداني، سواء في إقليم دونباس أو في المناطق الأوكرانية القريبة من الحدود الروسية، ومن بينها العاصمة كييف، ليس أمراً صعباً، لكنها ستعمد إلى مبادلة ذلك بتحقيق أهداف سياسية سبق أن أفصحت عنها، وهي ضمان الأمن القومي الروسي في إطار الأمن الأوروبي الأوسع؛ أي إبعاد حلف «الناتو» عن حدودها الغربية، وعدم انضمام أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا إلى الحلف، إضافة إلى عدم وجود قوات أطلسية في بلغاريا ورومانيا، على أن يكون ذلك في إطار تعهد وضمانات موثقة.
يبدو أن روسيا تريد تصميم بنية أمنية أوروبية جديدة، وضمان توسيع نطاقها الجغرافي والسياسي شبيه بما كانت عليه في الحقبة السوفييتية، وستواصل ضغطها العسكري على أوكرانيا لتحقيق أهدافها.. إما من خلال قبول كييف بكل شروطها، أو بانقلاب عسكري تشجع عليه موسكو يفرض نظاماً جديداً موالياً لها، كما كان الحال قبيل «التظاهرات البرتقالية» عام 2014 التي أطاحت الرئيس فيكتور يانكوفيتش.
يبدو أن ذلك سيأخذ وقتاً، وقد يقتضي خسائر بشرية ومادية كبيرة، لكن المشاهد الأخيرة ستكون في الميدان.