بقلم: مالك العثامنة – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – من مفارقات الهجرة والمهاجر الأوروبية، أن العرب المحافظين (بغالبيتهم المسلمة، شيعةً وسنةً)، ينتخبون الأحزاب الليبرالية عادةً، تلك الأحزاب التي تهتم بالبيئة والكوكب الأخضر، والعلاقات المفتوحة وحقوق النساء.
كل هذا لا يقرأه هؤلاء الناخبون الجدد في برامج الانتخاب، لا يرونه أصلاً، هم يرون في تلك الأحزاب قوانين أكثر انفتاحاً في المساعدات المالية، كما يرون فيها حقوق إنسان أكثر من غيرها.. يهربون إليها ويلجؤون نحوها من أزماتهم الكثيرة.
وهم أنفسهم، في غالبيتهم، لا يهتمون بالبيئة، ويحتقر المتطرفون منهم فئة المثليين الجنسيين ويؤمنون بقتلهم «حسب الشريعة»، ويضطهدون نساءَهم ويقمعون بناتِهم. الشيعي والسني والمسيحي والماروني، العربي والكردي والإسماعيلي والكلداني والآشوري.. ولك أن تعد ما شئت من هويات مشرقنا عاثر الحظ، كلنا هنا في مهاجرنا الأوروبية «مندمجون» أمام القانون في حاضنة الدولة المدنية والعلمانية، كلنا نلتقي باحترام مصطنع (ليس بالضرورة بود ومحبة)، أمام أي مطعم حمص وفلافل أو معجنات ومناقيش كحالة حنين ارتدادية.. وما زال أكثرنا يحمل قبليته وجاهليته وتشدده.. لكنه لا يعلنها إلا في بيته أمام شاشة نشرة الأخبار والمحطة العربية التي تكشف ميوله «الإقصائية» المريضة.
في المواسم الانتخابية الأوروبية، أستمع باستمتاع واستطراف لأحاديث مَن أعرفهم من عالمنا العربي المحافظ وهم يتداولون أسماء مرشحي الأحزاب الليبرالية والاجتماعية، مشددين على ضرورة التصويت لهم، لأسباب محصورة في المنافع المالية أو القانونية، لو نجحت تلك الأحزاب في الوصول إلى البرلمان وتشكيل الحكومة، وحين أجادلهم بأن تلك الأحزاب تنادي بكل ما يكفرون هم به، يكون الرد ببساطة: «وما دخلنا بهم؟ هي بلادهم.. ونحن نبحث عن مصالحنا».
المصالح التي يتحدثون عنها ليست ضمن مفهوم ومنطق مصالح «الجماعة الواحدة في منظومة الدولة الواحدة».. فهذا مفهوم مدني رفيع المستوى، يهمله بعض المهاجرين لصالح أثقال من الأساطير والأحمال التي يحملونها معهم، وينتهون أمام نشرات الأخبار الدامية يتحوقلون ويسبحون بالرزق العقيم، ويلعنون «الكفار» ومن والاهم، ويفشلون في كل مرة أن يكونوا مؤثرين حتى في الأوطان الجديدة وفي سياق إنساني عام.
والفشل يكون أكثر تجلياً ووضوحاً عندما يعجزون عن الانتماء إلى مجتمعاتهم الجديدة، التي تبلورت فيها مفاهيم الدولة والمواطَنة. والمحزن هنا أنهم تركوا أوطانَهم وأهلَهم وذكرياتِهم محبَطين بسبب عدم توفر مفاهيم المواطنة والمدنية هذه.. فهاجروا لغيابها، وغابوا عنها يوم وجدتهم تلك المفاهيمُ.
في المهجر، هناك فرصة جديدة لا لتحسين ظروف العيش والمعيشة فقط، بل لإعادة تأهيل الإنسان ووعيه في داخل كل واحد منا، وأهم قيمة علينا تَعلُّمها هي «المواطَنةُ» في سياق مفهوم «الدولة» بمعناها الحقيقي والإنساني الراقي.
لكن الواقعَ أحياناً يكون مختلفاً مع كثير من الذين هاجروا هرباً من واقع بلدانهم المؤسف، فهم ما يزالون يحملون معهم زوادتهم من الأفكار العقيمة التي لا تتسق مع واقع أوطانهم الجديدة بقدر ما هي أماكن عيش ينعزلون فيها داخل جُزُر مجتمعية منفصلة، ويخفَقون دوماً في «الاندماج المجتمعي» الذي تنفق عليه أوروبا أموالاً طائلةً، وينجح فيه كل مهاجر من الشعوب الأخرى إلا العرب! أحتار أين أضع شفقتي حينها.. على تلك الأوطان الجديدة أم على المفصومين بلا وعي!