بقلم: محمد حسين أبو الحسن – النهار العربي
الشرق اليوم – وضع فلاديمير بوتين يده على الزناد. اعترف بانفصال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا. ربما تتقدم قواته إلى هناك لـ”حفظ السلام”، بينما يؤكد الغرب أن روسيا تختلق الذرائع لغزو أوكرانيا؛ أي طلقة مدفع في تلك الأزمة يتردد صداها في الشرق الأوسط، على بعد آلاف الكيلومترات.
الاجتياح الروسي لم يحدث إلى الآن، لكن ارتداداته الدراماتيكية تعيد تشكيل الخريطة السياسية العالمية، وتداعياته تتوالى على جمهوريات آسيا الوسطى والبلطيق وجنوب المتوسط. يراقب العالم الدب الروسي وهو يتبادل اللكمات مع حلف “الناتو” بانتظار ما ستؤول إليه التجاذبات، الضربات العنيفة أسقطت البعض في الشرق الأوسط، حتى قبل اندلاع الشرر، وبعضهم أخذ يجني الأرباح؛ فمصائب قوم عند قوم فوائد!
مآلات الصّراع
سيناريوات متباينة لمآلات الصراع الراهن بين الغرب وروسيا، تراوح بين حرب واسعة أو محدودة، أو استمرار التوتر الحاد، أو انفراج الأزمة بناءً على تسوية مؤقتة أو دائمة، لكن ما يلفت الأنظار هو ظهور محددات جديدة في سياقات الأزمة، بغضّ النظر عن النهاية التي قد تصل إليها؛ فهي تسكب الزيت على نار الكباش المتصاعد بين الولايات المتحدة وروسيا حول قضايا النظام العالمي، ومن بينها الشرق الأوسط: ملفات النووي الإيراني وسوريا وليبيا واليمن وسد النهضة وشرق المتوسط؛ مع أن أهالي المنطقة لا ناقة لهم ولا جمل في أوكرانيا.
الجنرال إريك كوريلا، المرشح لمنصب القائد العام للقيادة المركزية الأميركية، قال أمام أعضاء مجلس الشيوخ: إذا غزت روسيا أوكرانيا، فقد يؤدي ذلك إلى عدم استقرار أوسع في الشرق الأوسط، مؤكداً أن بلاده تواجه حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية مع الصين وروسيا.
وشدد السفير الأميركي الأسبق لدى إسرائيل مارتن إنديك، في مقالة في مجلة “فورين أفيرز”، على أن الأزمة الأوكرانية سلطت الضوء على مفارقة قاسية في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، مبيناً أن إدارة بايدن استيقظت على حقيقة غير سارة، تمثلت في أن حلفاءها في المنطقة أبدوا عدم استعداد لاتخاذ موقف ضد روسيا في الأزمة المحتدمة مع الغرب، برغم أنهم مدينون لأميركا ويتعاطفون مع أوكرانيا؛ أرجع إنديك ذلك إلى القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، وتبناه من بعده الرئيسان ترامب ثم بايدن بوضع الشرق الأوسط أسفل قائمة أولويات السياسة الخارجية لواشنطن.
أشار إنديك إلى أنه حتى إسرائيل، أهم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، تلتزم صمتاً مطبقاً إزاء ما يحدث في أوكرانيا، مع أن الدولة العبرية تحتفظ بعلاقات وثيقة مع أوكرانيا، التي فيها جالية يهودية كبيرة، والرئيس الأوكراني الحالي نفسه يهودي. وعرّج إنديك على مواقف حلفاء بلاده العرب دول الخليج ومصر، موضحاً أن الكويت لم تعر الأمر اهتماماً، أما السعوديون الذين كانوا حلفاء مخلصين في مواجهة الشيوعية السوفياتية، فإنهم غير متعاونين، بتعبير إنديك، ولم يتدخلوا للحد من ارتفاع سعر النفط، على خلفية الأزمة، ويعتقد إنديك أن الموقف المصري لا يختلف كثيراً؛ فمصر غير مهتمة باتخاذ موقف ضد بوتين بشأن أوكرانيا. وأضاف إنديك أن روسيا أضحت لاعباً في المنطقة وتملأ – ولو جزئياً – الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة بانكفائها منها، بل إن موسكو في نظر بعض حلفاء أميركا تبدو أجدر بالثقة من واشنطن؛ داعياً إدارة بايدن الى انتهاج نزعة واقعية جديدة إزاء الشرق الأوسط.
حساب إسرائيل
وقد اعترف رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الأسبق عاموس يادلين، بأن الأزمة الأوكرانية تفرض تحدياً أمام إسرائيل، يرتبط بالساحة السورية، بحيث من الممكن أن يتغير الواقع نحو الأسوأ إن أراد الروس أن يبعثوا برسائل إلى واشنطن على حساب إسرائيل.
وتحاول تركيا لعب دور حيادي، للحفاظ على مصالحها ومكتسباتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع الروس أو الأوكرانيين أو الغرب، لكن اندلاع الحرب سيجبرها على مساندة طرف دون طرف، وهو ما يخشاه أردوغان، إذ لا يتحمل الاقتصاد التركي أي مغامرة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
الغضب الروسي قد يدفع بوتين إلى الانتقام من تركيا إذا اصطفت مع أوكرانيا وحلف الناتو الذي تنتمي اليه، من خلال قضايا شائكة بالنسبة الى أنقرة مثل الصراع القبرصي أو الوجود العسكري التركي في سوريا وليبيا والعراق أو المشكلة الكردية، وإمدادات الغاز الطبيعي… أما ميل تركيا إلى جانب روسيا فيعني معاداة الغرب والناتو وخسارة مصالحها مع كييف، بالإضافة إلى العقوبات الأميركية والأوروبية.
كما يمكن أن يتطاير شرر الأزمة الأوكرانية حال اشتعال نار الحرب إلى الأزمة في سوريا، على نحو ينذر بتأجيجها ثانية، وبالمثل في ليبيا التي لا تزال منطقة نزاع ملتهب بين أطراف المعادلة الداخلية والقوى الخارجية، وكذلك في قضايا اليمن وسد النهضة وشرق المتوسط والملف النووي الإيراني، ما يهدد بإعادتها إلى المربع الأول بعد كل الجهود المبذولة لحلحلة الأوضاع والبحث عن مخرج لها بالطرق الدبلوماسية والسياسية.
وفيما تُدَق الطبول التي تنبئ بنشوب حرب بين روسيا وأوكرانيا، تتصاعد المخاوف حول وصول إمدادات الغذاء إلى الدول التي تعتمد على أوكرانيا في ذلك، فقد صدّرت الأخيرة 18 مليون طن من القمح عام 2020، ما يجعلها خامس أكبر مصدّر له في العالم،
ووفقاً لبيانات منظمة الأغذية والزراعة “الفاو”، استورد لبنان نصف استهلاكه من القمح عام 2020 من أوكرانيا، واليمن وليبيا 22% و43% على الترتيب، وبلغت واردات المغرب 26%، واستوردت مصر 3 ملايين طن، تمثل 14% من وارداتها، بما يجعلها أكبر مستهلك للقمح الأوكراني. في المقابل، استوردت القاهرة نحو خمسة ملايين طن من روسيا، وبالمثل تعتمد الجزائر على روسيا ثم أوكرانيا في تلبية وارداتها من القمح، وهذا يعني أن الاجتياح الروسي إن حدث يهدد بأزمة في إمدادات السلع الغذائية الأساسية من موسكو وكييف إلى البلدان النامية عموماً، والشرق الأوسط خصوصاً، وينذر بصدمات في أسعارها، وربما يؤدي انعدام الأمن الغذائي إلى زعزعة الاستقرار وتفاقم التوترات والعنف في هذه البلدان.
وعلى مدى الأيام الماضية، حث كبار الخبراء مختلف الحكومات على التحرك العاجل لمنع شبح المجاعة حال الغزو الروسي لأراضي أوكرانيا، وقالوا إن ذاك الصراع الجيوسياسي قد يخلق أزمة وشيكة على مستوى الكوكب، ناجمة عن أمور قديمة قِدم الحضارة الإنسانية نفسها: الحرب والمجاعة والمرض.
الوجه الآخر
الوجه الآخر للأزمة هو ارتفاع أسعار النفط والغاز إلى مستويات لم تلامسها منذ سبع سنوات، فقد تجاوز سعر برميل البترول 90 دولاراً، ويمكن أن يصل إلى 120 دولاراً ساعة الغزو، وهو ما يضيف فوائض ضخمة لمنتجي النفط، لا سيما دول الخليج العربية، كالسعودية والإمارات. وبالمثل ارتفعت أسعار الغاز المسال في السوق العالمي، وألحّت الولايات المتحدة وأوروبا على قطر والجزائر ومصر لضخ المزيد؛ تحسباً لأي نقص في الإمدادات الروسية عبر خط أنابيب “نورد ستريم” إلى أوروبا.
الأزمة في أوكرانيا صراع بين القوى العظمى على الموارد والثروات البحرية ومناطق النفوذ والمجالات الاستراتيجية، وهو لن ينتهي. في الوقت نفسه، لا يمكن لأي دولة أن تعزز أمنها على حساب الآخرين، ولو اختلت موازين القوى، فإن النتيجة صادمة لكل الضعفاء ولمن لا يؤمنون بعبر التاريخ ومواعظه.
يرى المحللون الغربيون أنه إذا غزت روسيا أوكرانيا من دون رادع من الغرب، فإن ذلك سيدفع الصين إلى التوسع نحو بحر الصين الجنوبي والسيطرة على جزيرة تايوان.
كل ما يجري وسيجري، يعيد التذكير بمقولة الخبير الاستراتيجي الأميركي أنطوني كوردسمان: “الحرب ليست عن إلغاء المخاطر بل عن إدارة المخاطر”.