بقلم: براندون ج. ويتشرت
الشرق اليوم- طوال سبع سنوات، منذ الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم في عام 2014، جمعت الولايات المتحدة وحلفاؤها حزمة من العقوبات الاقتصادية لمعاقبة روسيا أو حتى إبطال مكاسبها في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، وفشلت تلك الجهود الغربية بكل وضوح، حتى أنها أنتجت ظرفاً استراتيجياً جعل الاقتصادي الروسي يزداد صلابة في وجه أي عقوبات اقتصادية مستقبلية، وفي غضون ذلك زاد التقارب بين موسكو وبكين أكثر من أي وقت مضى.
من الواضح أن التحركات الأمريكية تجاه روسيا بدأت تُمهّد لنشوء سيناريو كارثي حيث تضطر أقوى دولتَين في أوراسيا لعقد تحالف معادٍ للولايات المتحدة قد يعيد صياغة قواعد النظام الدولي بطريقة جذرية، وما لم تنجح الولايات المتحدة في طرح استراتيجية جديدة للتعامل مع هذا النظام العالمي الجديد المؤلف من حكام مستبدين صاعدين في أوراسيا، فقد تجد نفسها معزولة ووحيدة في العالم.
تُعد الأزمة الراهنة في أوكرانيا مجرّد بداية لإعادة تنظيم العالم بعيداً عن الهيمنة الأمريكية “الأحادية الجانب” التي سادت بعد حقبة الحرب الباردة، فينشأ ميزان قوى ثلاثي الأطراف حيث تصطف قوتان من أصل ثلاثة (روسيا والصين) ضد القوة الثالثة (الولايات المتحدة).
أطلقت واشنطن محاولات يائسة لاحتواء روسيا وإجبارها على التخلي عن سياستها تجاه أوكرانيا منذ عام 2014، لكن لا يفهم الكثيرون في واشنطن أن أوكرانيا تحمل ميزة جغرافية واستراتيجية أساسية بنظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظامه، سيكون الروس إذاً مستعدين لخوض الحرب فعلاً.
واشنطن خلقت أسوأ أعدائها بنفسها
لا تقتصر مشكلة واشنطن على إمعانها في تأجيج مشاعر الكره ضد الولايات المتحدة والغرب من خصمَيها الاستراتيجيَين، بل بدأت الصين وروسيا تتعاونان الآن على جميع المستويات أيضاً، حيث تتجه قوتان عسكريتان واقتصاديتان ومعاديتان للولايات المتحدة إلى السيطرة على أوراسيا، قلب العالم، وهما تحملان كراهية مشتركة ومتطرفة للدور الأميركي في العالم.
منذ ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 والصراع اللاحق الذي امتد على ثماني سنوات في شرق أوكرانيا، فرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية على روسيا، وسببت تلك العقوبات أضراراً كثيرة لروسيا في البداية، لكن أصبحت موسكو مكتفية ذاتياً مع مرور الوقت، وعلى غرار ما يحصل عند أخذ جرعة زائدة من أي مضاد حيوي، خسرت العقوبات الأمريكية فاعليتها ضد روسيا، ومع ذلك يتابع الأمريكيون استعمال هذا العلاج العقيم لاستهداف مشكلة لا تكف عن التفاقم، واليوم بدأت روسيا تتجاهل تلك العقوبات، حتى أنها تبتكر شكلاً ناشئاً وخاصاً بها من العقوبات الاقتصادية ضد الولايات المتحدة والنظام الاقتصادي العالمي ككل بمساعدة الصين المسرورة بالوضع.
ففي حين تتابع القوات العسكرية الروسية حشد عناصرها على طول الحدود الأوكرانية مثلاً، فرضت موسكو عقوبات صارمة حتى 1 أبريل على جميع منتجات سماد نترات الأمونيوم القادمة من روسيا، وبما أن روسيا هي واحدة من أهم مصدّري منتجات الأسمدة الأكثر شيوعاً في العالم (لا سيما في موسم الحصاد الأساسي الذي تأثر سلباً بالجفاف في أميركا الجنوبية بسبب ظاهرة “لا نينا” المناخية)، تجازف العقوبات الروسية برفع أسعار المنتجات الزراعية العالمية في وقت حرج.
يعني ذلك أن أسعار البقالة التي يتكبدها الأمريكيون توشك على الانفجار، مما قد يؤدي إلى تراجع الاقتصاد المتعثر أصلاً، وفي ظل التحذيرات المتواصلة حول ركود وشيك في الولايات المتحدة بحلول عام 2023 كحد أقصى، ومع بلوغ نسبة التضخم 7.5% اليوم، من الواضح أن الوقت ليس مناسباً الآن لتكبد تكاليف إضافية على سلع أساسية مثل المواد الغذائية.
من المتوقع أن يصبح الأميركيون أقل تقبّلاً لمجابهة التهديدات الخارجية حين يجدون صعوبة في تأمين غذائهم: هذا هو هدف التحركات الروسية أصلاً،
وبسبب السياسات الأمريكية والأوروبية الضعيفة تجاه أوكرانيا وروسيا، وجد الكرملين نفسه في موقع يسمح له بالتأثير على سعر الإمدادات الغذائية العالمية.
منذ أن فرض الغرب الجولة الأولى من العقوبات على موسكو بعد غزو شبه جزيرة القرم في عام 2014، حاولت روسيا أن تصبح مصدّرة كبرى للطاقة ومنتجة أساسية للمواد الغذائية، وقد نجحت في مساعيها بشكل عام، لهذا السبب، تستطيع روسيا اليوم أن تغيّر مسار أسواق السلع العالمية بسهولة توازي تأثير واشنطن على الأسواق المالية العالمية عبر استعمال العقوبات بطرق متهورة.
بعدما فرضت روسيا عقوبات مؤقتة على منتجات نترات الأمونيوم، أعلنت بكين فرض حظر مماثل على صادرات منتجات الأسمدة الفوسفاتية حتى 1 يونيو، إذ سبق أن رفعت هذه الخطوة، إلى جانب القرار الروسي، سعر المواد الغذائية العالمي.
على عكس عقوبات واشنطن التي تحمل طابعاً طويل الأمد وزادت تصميم محور أوراسيا على المضي قدماً وسمحت لهذه الدول بابتكار مخرج من الفخ الأمريكي، أصبح الغرب ضعيفاً أمام المناورة الصينية الروسية وأكثر عرضة لتداعيات رفع أسعار المنتجات الزراعية بعد قرار حظر الأسمدة.
نحو عملة خاصة بالصين وروسيا؟
هذه الخطوات هي بداية سلسلة تحركات شاملة ومنهِكة قد يتخذها الحلفاء في أوراسيا إذا تابعت واشنطن التصرف وكأن الظروف لا تزال مشابهة لعام 1994 أو كأنّ التاريخ انتهى.
لم تكتفِ روسيا والصين بتنسيق جهودهما لإنشاء نظام قوي من العقوبات ضد الولايات المتحدة وحلفائها، بل إنهما قد تبدآن في مرحلة معينة بتقريب اقتصاد البلدَين من بعضهما، إلى جانب اقتصادات عملائهما في أنحاء أوراسيا، ومع مرور الوقت، قد تعمد هاتان القوتان البارزتان في أوراسيا إلى ابتكار عملة بديلة لإضعاف القدرة الأمريكية على فرض العقوبات.
الصين قد تهزم الحصار الأمريكي بفضل روسيا!
في ظل احتدام التوتر بين واشنطن وبكين بسبب تايوان، دعا كبار الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين البحرية الأمريكية إلى فرض حصار بعيد المدى على الصين، لكن لا يدرك الكثيرون أن وجود روسيا الصديقة في شمال الصين يعني أن تتحمل بكين أي حصار تحاول واشنطن فرضه إذا أقدمت الصين على غزو تايوان.
بدأت القوة العسكرية الأمريكية تضعف بسبب التدابير الاقتصادية الصارمة التي اتخذتها الصين وروسيا لتحمّل نظام العقوبات الأمريكي الحتمي والمتواصل ضدهما، فيحصل العدو إذاً على فرصة الاختيار دوماً.
نظام عالمي جديد في الأفق
بغض النظر عما يحصل في أوكرانيا في المرحلة المقبلة، ثمة أمر مؤكد واحد: لم يعد هذا العالم يشبه ما ورثته الولايات المتحدة بعد انتصارها المدهش وغير الدموي في الحرب الباردة، بل يبدو أن الظروف الجيوسياسية الفوضوية التي كانت سائدة في الماضي عادت لتطارد العالم الذي نعيش فيه اليوم: إنه عالم لا تحكمه قوة واحدة بل تطغى عليه ثلاث قوى متنافسة على الأقل (فضلاً عن قوى متوسطة تتصارع على السلطة).
أصبح النظام الدولي اليوم غير مستقر، وقد خسرت الولايات المتحدة مكانتها المتقدمة بعدما اعتادت على هيمنتها العالمية، وإذا تابعت واشنطن التصرف وكأن شيئاً لم يتغير، فسيكون انهيار النظام القائم أكثر قوة وستجد الولايات المتحدة نفسها في موقف شائك، فتصبح محاصرة من خصوم عدائيين وأقوياء في أوراسيا، وتعجز عن بلوغ أهم أسواق العالم أو الاستفادة من موارده، وتتعرض لضغوط متواصلة كي تتماشى مع النظام العالمي الجديد.
قد تقرر روسيا والصين مطاردة الاقتصاد الأمريكي عن طريق سوق السلع العالمية، وحين ترسّخ هاتان القوتان تحالفهما مع مرور الوقت، وفي حين تتابع الصين نموها الاقتصادي على مر العقد المقبل، فلا مفر من أن تتوسع قدرة البلدَين على تهديد الولايات المتحدة اقتصادياً، ولا تبدو واشنطن مستعدة للتعامل مع هذا السيناريو بأي شكل، ويدرك قادة روسيا والصين هذا الواقع.
ترجمة: صحيفة الجريدة