بقلم: مفتاح شعيب – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – يحتاج فهم مسارات الأزمة بين روسيا والغرب إلى كثير من الصبر والتأني وتجنب الأحكام المسبقة، فالصراع مازال في أوله ولن يتوقف عند أوكرانيا التي فقدت جزءاً من أراضيها ممثلة في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، وشكل الاعتراف مفاجأة للغرب الذي كان يروج لغزو شامل لكل أوكرانيا وينتظره في غضون أيام.
احتدام الصراع بين المعسكرين الروسي والغربي يثير القلق، وذهبت بعض التحليلات إلى توقع مواجهة شاملة يمكن أن توصف بأنها حرب عالمية ثالثة، لن تبقي شيئاً إذا اندلعت، ولن يخرج منها منتصر بالنظر إلى حجم الترسانة المرعبة التي يمتلكها الطرفان. لكن المنطق يؤكد ألاّ مكان لهذه الفرضية في المستقبل؛ بل هي مستحيلة، فليست هناك دولة عاقلة في الغرب، مهما عظمت، تمتلك الشجاعة والجرأة على الدخول في حرب مع دولة تمتلك أكبر ترسانة نووية وأسلحة فتاكة مثل روسيا، كما أن القادة الروس، لا تنقصهم الحكمة، حتى يدمروا شركاءهم الأوروبيين والأمريكيين أيضاً، أو أن يكون بلدهم ضحية دمار متبادل في حرب مجنونة.
وفي ظل تعدد التفسيرات والتأويلات حول ما يجري، يرفض الجميع، وكأنهم متفقون، الاعتراف بأن ما يدور هو حرب باردة بكل معنى الكلمة، على الرغم من كل التحركات السياسية والاستعراضات العسكرية. وبعد أن عملت الدعاية الغربية لأسابيع على شيطنة روسيا والتعالي عليها بالتهديد بفرض عقوبات، كشف خطاب الرئيس فلاديمير بوتين سردية تاريخية ركزت على فضح «الإهانات» الغربية التي تلقتها بلاده منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وكذلك أخطاء الزعماء البلاشفة في القرن الماضي والتضحيات الروسية الكبيرة في الحروب الماضية، ومن بين طيات الخطاب يظهر شيء من الشدة والصلابة والسعي لتصحيح الكثير مما يؤمن بأنها أخطاء.
منطق الغرب في التعامل مع هذه الأزمة يتعامى على حقيقة أن الحرب الباردة الثانية قد انطلقت شرارتها من أزمة أوكرانيا، لذلك يصّر على بحث فرض العقوبات «القاسية» على روسيا، وكأنه لا يعلم أن ارتدادات العقوبات المتوقعة سترتد عليه بعنف، وخاصة على الدول الأوروبية التي لا تنقصها الأزمات ولن تضمن نجاح هذا السلاح في ردع الدب الروسي الغاضب. ومن المؤكد أن موسكو ستتأذى من العقوبات، لكن عندما يتعلق الأمر بما تراه أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية فهي مستعدة للتضحية والمناورة.
عند زيارة بوتين إلى الصين ولقاء الرئيس شي جين بينج، صدر بيان مشترك أكد أن العلاقات الدولية دخلت حقبة جديدة لا مكان فيها للأحادية القطبية. ولأن صنّاع القرار غير معنيين بوضع المصطلحات، فإن ما أرادا الإشارة إليه بـ«الحقبة الجديدة» هو تشكل حالة صراع وتوتر وتنافس بين قطبين أو أكثر. وما يوحي به المسرح العالمي اليوم أن المستقبل القريب سيشهد الحرب البادرة الثانية بين الغرب والشرق، وقد يكون لواشنطن حلفاء كثيرون عبر العالم، لكن لموسكو حليف صيني عملاق له مصالح وأهداف تلتقي في أغلبها مع موسكو ولا ينقصه شيء من القوة. وبهذه الصورة، فإن الأزمة الحالية أكبر بكثير من أوكرانيا التي يمكن أن تكون مجرد تدريب على ما هو أكبر، كما لن تكون نتيجتها انهيار المعسكر الشرقي مرة أخرى.