بقلم: أحمد نظيف – النهار العربي
الشرق اليوم – قبل سنوات نشر المفكر الفرنسي باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، كتاباً رائداً في موضوعه تحت عنوان “المثقفون المزيفون: النصر الإعلامي لخبراء الكذب” شرح فيه ظاهرةً سيطرت على المشهد العام الفرنسي خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة وهيمنة وسائل الإعلام الخاصة على الفضاء العام، وهي بروز طبقة من الخبراء والمثقفين الذين يحترفون الكذب للدفاع عن قضايا تهم مصلحتهم الشخصية أو مصالح القوى المالية والسلطوية التي تدعمهم أو تشغلهم، ويحظون بالاحترام والتبجيل ولا أحد يجرؤ على التنديد بتلاعبهم المفضوح بالحقيقة. وقد ذهب بونيفاس في خلاصته الأخيرة إلى أن انتصار هؤلاء “الكذابين المتسللين” يمثل تهديداً حقيقياً للمواطنة من خلال نسف مصداقية المعلومات، وللديموقراطية.
وعلى رغم تشاؤمه المفرط في الكتاب لم يكن بونيفاس قد وصل إلى درجة التحذير من وصول طموحات بعض هؤلاء إلى السلطة، إذ لم يعد يكفيهم الاشتغال كحراس أو أدوات في يد قوى لها من النفوذ والهيمنة على الساحة، بل أصبحوا يحلمون بمرتبة وكيل على رأس السلطة السياسية. ويبدو أن إيريك زيمور، الذي يمثل عينة نموذجية من هؤلاء المثقفين، أبرز هذا الطموح بشكل واضح وعلني، بعد ترشحه للانتخابات الرئاسية التي ستجرى في نيسان (أبريل) المقبل.
فالرجل الذي شغل مواقع مختلفة في المشهد الإعلامي الفرنسي منذ بداية القرن الحالي، كاتباً ومعلقاً ومحللاً، يدين للإعلام بصناعته وتجهيزه لمثل هذه اللحظة، على رغم الهفوات العنصرية العديدة التي كان يرتكبها عن وعي خلال هذه المسيرة الإعلامية المزيفة للوعي العام.
ذلك أن إيريك زيمور هو تعبير عن الإبادة شبه الكاملة للنقاش العام في الساحة الفرنسية عند نهاية التسعينات وبداية أفول السرديات الجدية يميناً ويساراً، في وقت تضاعفت برامج “النقاش” المزعومة على وسائل الإعلام المهيمنة، ولكن لم تتوحد أبداً أو تقريباً شروط نقاش تعددي وعقلاني حقيقي.
إذن استطاع عدد من المحررين والسياسيين الصراخ بصوت عالٍ جداً بأن زيمور يمثل ارتقاءً في النقاش العام، على رغم أنه كان يمارس عبثاً غير مسبوق من خلال الاتكاء على المراجع التاريخية الغامضة – التي هي علاوة على ذلك رواية وطنية أكثر منها تاريخ محكم بالمعنى الدقيق للكلمة، والأرقام الخاطئة بشكل عام، وبعض الاقتباسات التي تم تعلمها عن ظهر قلب تكفي لجعل المتحذلق “مثقفاً عظيماً”. وقد ساعده في ذلك العبث ضعف التعددية السياسية والأيديولوجية في وسائل الإعلام الخاصة، المحتكرة من طرف الأقلية المهيمنة، وفي وسائل الإعلام العامة؛ ولكن أيضاً هيمنة طبقة المثقفين المزيفين، التي فككها بونيفاس في كتابه، وهم المثقفون الذين يدينون بشهرتهم بالكامل للإعلام وليس لعمل كان من الممكن أن تتم الإشادة به في المجال الفكري والذين خدموا أجندات سياسية بالتعاون مع الأحزاب المهيمنة، كانت للأسف تصب في مصلحة قوى اليمين المتطرف العنصري طوال الوقت.
لكن ما تجب الإشارة إليه بدقة هو أن زيمور – وفي هذا السياق الانتخابي – ليس مجرد مثقف صنعته وسيلة إعلامية يحاول مداعبة جمهور اليمين المتطرف ببعض الشعارات الشعبوية؛ بل هو يمثل أحد البدائل المحتملة للبورجوازية الفرنسية المهيمنة. فهذه الطبقة لا تميل الى اليقين أبداً، ولا تضع كل بيضها في سلة واحدة. وعلى مدى عقود كانت تدعم بسخاء حزبي السلطة على حد السواء: الحزب الاشتراكي والحزب الديغولي، وهي بالتأكيد تراهن اليوم على إعادة انتخاب ماكرون، ولكنها في الوقت نفسه تحاول أن تخلق بدائل، كي لا تقع في مفاجآت لا تخدم مصالحها، مثل ما يذهب إلى ذلك الأكاديمي في جامعة ليل أوغو باليهيتا، في ورقة نشرها حول الأعراض المرضية لظاهرة زيمور.
وعلى رغم هذا الدعم الواضح من وسائل الإعلام السائدة وأجزاء من البورجوازية الفرنسية، فإن مرشح اليمين المتطرف، والذي صارت بعض الصحف تطلق عليه “المرشح الوطني”، يعجز عن جمع التواقيع الإلزاميّة لخوض السباق الرئاسي من عند رؤساء البلديات، فيما نجح كل من تالي أرتو، مرشحة اليسار العمالي التروتسكي، وفابيان روسيل، مرشح الحزب الشيوعي في الحصول على التوقيعات الضرورية، وثبّتا اسميهما في قائمة المرشحين في المجلس الدستوري، ما يعطي مؤشراً إلى الفجوة التي تفصل بين زيمور وعموم الطبقة الحاكمة. ذلك أن دعم دوائر الإعلام والمال ليس كافياً في فرنسا، وسط السديم السياسي السائد، وبخاصة إن كان بلا ظهير حزبي، فالحياة السياسية الفرنسية لا تزال تعتمد على قوة الأحزاب في إدارة الشأن العام، الأمر الذي دفع الرئيس ماكرون، لحظة خروجه من الحزب الاشتراكي وإدارة هولاند، إلى تأسيس حزب سياسي كي يخوض به معركة السلطة، على رغم أنه أمضى شهوراً في انتقاد همينة الثنائية الحزبية على المشهد منذ الستنيات.
لكن هذه المفارقة بين عجز زيمور عن جمع التوقيعات، والأرقام التي يحصل عليها في استطلاعات الرأي، تُبرز في وجه آخر من وجوهها أن هؤلاء المثقفين الذين تصنعهم وسائل الإعلام السائدة، ليسوا إلا فقاعة ما تلبث أن تذهب مع الريح من دون أثر يذكر.