بقلم: رندة تقي الدين – النهار العربي
الشرق اليوم – يسأل العالم عما يريده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدما شغل العواصم الغربية بسياساته، والتي تحاول معرفة ما ينوي فعله في أوكرانيا. فهل تغزو روسيا أوكرانيا بعد اعتراف بوتين بجمهوريتي لوغانسك ودونيستك، وهما إقليمان منفصلان عن أوكرانيا؟ أم أنه يريد الضغط على الغرب وفرض نفوذه في أوروبا؟
شغل بوتين، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي زار الكرملين أخيراً مع بدء التصعيد، ثم انتقل إلى كييف والتقى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، وتابع الملف الأوكراني بالتنسيق من دون انقطاع مع المستشار الألماني أولاف شولتز ومع الرئيس الأميركي جو بايدن، وكرّس نهاية الأسبوع الماضي كل وقته لإجراء اتصالات مع بوتين وبايدن وزيلنسكي وشولتز إلى أن نجح في ترتيب موعد للقاء قمة يجمع بين بايدن وبوتين اذا لم تغزو روسيا، أوكرانيا، خصوصاً بعد اجتماع وزيري خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن وروسيا سيرغي لافروف في جنيف.
كل هذه الحركة هي بحسب الرئاسة الفرنسية تندرج في مسعى باريس لتجنب الحرب. فالرئيس الأميركي على قناعة بأن بوتين سيغزو أوكرانيا، ويشاطره حلفاؤه في أوروبا هذا التقدير وفي طليعتهم ماكرون وشولتز، وهما يعتبران أن الوضع خطير جداً ولكنهما يبذلان جهوداً مكثفة ومستمرة للتصدي لنوايا بوتين المحيرة للغرب. يسيطر الرئيس الروسي على مسار خطير أطلقه منذ ثلاثة أشهر وأضاع به محاوريه في أوروبا والولايات المتحدة، إذ إنه يصعد عسكرياً بجيشه ثم يعتمد التضليل ويبث أخباراً خاطئة حول مجازر في الدونباس وحول الهجوم على الموالين لروسيا الانفصاليين في شرق أوكرانيا. ثم يعدل نهجه ويقول إنه مع التفاوض الدبلوماسي ويوكل الرئيس ماكرون بنقل رسائل لبايدن حول ما يريده من ضمانات أمنية لروسيا، فيما أوروبا لا يمكنها أن تهدد روسيا.
افتتح بوتين مساراً للتصعيد في أوكرانيا، وهو استفز الغرب مع حشد قوات يُقدر عديدها بـ150 ألف جندي على حدود أوكرانيا، وهو يحتل جزءاً من أراضيها منذ عشر سنوات. وإذا كانت علاقة روسيا بأوكرانيا لها خصوصية تاريخية، إلا أن بوتين لا يتحمل أي نظام ديموقراطي وليبرالي واقتصاد حر مثل باقي الدول الأوروبية في جوار روسيا. فهو لا يرغب بمثل هذا النموذج من الحكم في بلد يتمنى أن يكون تابعاً له وليس لأوروبا. يلجأ بوتين إلى حجة أن “الناتو” يريد التوسع لضم أوكرانيا ويطلب ضمانات أمنية بعدم توسع الحلف شرقاً في حين أن مسار دخول أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي ليس مطروحاً حالياً للبحث، علماً أن جورجيا ومولدافيا وأوكرانيا حصلت سابقاً في قمة بوخارست على وعد بضمها إلى الناتو، ولكن الرئاسة الفرنسية أكدت أن هذا الأمر لن يحدث في الوقت الراهن إنما هو مدرج على جدول أعمال “الناتو”.
وراى رئيس لجنة الخارجية في الجمعية الوطنية الفرنسية النائب جان لوي بورلانج، في حديث مع إذاعة “فرانس أنتير”، أن مهمة حلف شمال الأطلسي هي لحماية دول كانت تحت مظلة الاتحاد السوفياتي مثل بولندا وهنغاريا ودول البلطيق، ولكن لأوكرانيا خصوصية في علاقتها مع روسيا. وقال إنه ضد مبدأ دخول أوكرانيا في حلف “الناتو”. فالتصعيد الذي يقوم به بوتين بوجه الغرب قد يهدف إلى تقديم تنازلات وضمانات أمنية من أوروبا لروسيا ولكن من الصعب على الاتحاد الأوروبي أن يسلم باستقلال وحرية النظام في أوكرانيا تخوفاً من الحرب.
إن الاجتماع المقرر بين بلينكن ولافروف يوم الخميس المقبل في جنيف سيقرر ما إذا كانت الدبلوماسية ستنجح أم أن بوتين يريد الحرب فعلاً وغزو أوكرانيا، وهو يعلم أنه يتعرض لعقوبات قاسية، بلده في غنى عنها. ولكن بوتين أدرك بعد الانسحاب الأميركي الكارثي من أفغانستان والآن الفرنسي من مالي، حيث ميليشيا فاغنر التابعة للرئيس الروسي تنتشر في أماكن عدة للسيطرة في مالي، أن الغرب والديموقراطيات ضعيفة وبوتين لا يرغب بنموذج للديموقراطية قرب روسيا. فإذا قام بغزو أوكرانيا وتعرض للعقوبات سيعاني الاقتصاد الروسي منها علماً أن روسيا من أكبر الدول المصدرة للنفط والغاز وهي تزود 40 في المئة من صادرات الغاز والنفط لأوروبا.
العقوبات على روسيا قد تؤثر في علاقات هذا البلد مع دول “أوبك +” وفي طليعتها السعودية والإمارات وهما حليفان للولايات المتحدة. بوتين قد يكون خاسراً إذا احتل أوكرانيا لأنه يساهم بعودة الولايات المتحدة إلى التحالف والتنسيق مع دول الاتحاد الأوروبي، كما أنه يعيد اهتمام دول تقليدية محايدة، مثل فنلندا والسويد، بالحلف الأطلسي “الناتو”. يخسر بوتين في غزو أوكرانيا بهدف تنصيب نظام تابع له، فهو يحوّل الشعب الأوكراني إلى جبهة معارضة لروسيا.
صحيح أن بوتين يطمح إلى عودة جمهوريات الاتحاد السوفياتي، ولكن نفوذه لا يمكن أن يتوسع من الشرق الى الغرب من دون قيود وحدود له من الدول الأقوى. لذا يبدي ماكرون حرصه على حوار معه منذ أن انتخب رئيساً لفرنسا ولكن من دون الاستسلام ولا الضعف أمامه.
خطر الحرب في أوروبا أرجأ إعلان ترشّح الرئيس الفرنسي للانتخابات الرئاسية لأنه لا يمكنه القيام بذلك وسط تحرك كثيف لمنع اندلاع الحرب في أوروبا، خصوصاً أنه أصبح معروفاً أن ماكرون مرشح لولاية رئاسية ثانية وهو الفائز المحتمل في كل استطلاعات الرأي، ولكن نشوب حرب في أوروبا لن تكون لمصلحة احد.