بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم – في مشهد يبدو أنه مقتطع بالكامل من الحرب الباردة، تحشد روسيا ما يصل إلى نحو 130 ألف جندي على طول أرضها مع الحدود الأوكرانية، يواصل من خلالهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التهديد بغزو أوكرانيا، من دون أن يصرح بذلك رسمياً، عمل عسكري إذا ما تم يمكن أن يتحول إلى أكبر صراع على الأراضي الأوروبية منذ عقود.
تضمنت الإجراءات الروسية أيضاً نقل بعض القوات إلى بيلاروسيا المجاورة لإجراء تدريبات عسكرية، وإرسال المزيد من المعدات إلى الانفصاليين في شرق أوكرانيا، وذلك وفقاً لمخابرات الدفاع الأوكرانية التي قالت إنّ “روسيا أرسلت سبعة آلاف طن من الوقود ودبابات وأنظمة مدفعية ذاتية الدفع وأسلحة وذخيرة أخرى، بما في ذلك أنظمة مدفعية وقذائف مورتر” إلى المناطق الانفصالية. وأشار صمويل شاراب، كبير المحللين السياسيين في مؤسسة RAND والمسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية: “إنها عملية مختلفة اختلافاً جوهرياً عن أي شيء رأيناه من قبل”.
كيف وصلت الأمور إلى هذا المستوى من التصعيد؟
لقرون عدة مضت، كانت أوكرانيا جزءاً من الإمبراطورية الروسية، قبل أن تصبح في ما بعد أيضاً جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وقد خاضت روسيا في السابق حرباً ضروساً ضد الدولة العثمانية على شبه جزيرة القرم (الناطقة بالروسية والتي اعتُبرت أوكرانية عام 1954 بقرار الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف).
في مسيرة البيروسترويكا، وأثناء المفاوضات بين غورباتشوف والقادة في أوروبا، وافق الزعيم السوفياتي على هدم جدار برلين، وكل ما يرمز له هذا الهدم، في مقابل تعهد شفوي من أوروبا بعدم تمدد حلف الناتو باتجاه الشرق نحو حدود الاتحاد السوفياتي. ثم بعد انهيار الاتحاد، أصبحت أوكرانيا دولة مستقلة، ولكن ظلّت عيون بوتين ترنو إليها منذ أن تسلم رئاسة روسيا.
نهاية عام 2013، ألغى الزعيم الأوكراني – صديق موسكو – فيكتور يانوكوفيتش خططاً لتوقيع اتفاقية من شأنها تقريب البلاد من الاتحاد الأوروبي، بعدما اقترح بوتين اتحاداً جمركياً مع روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان بدلاً من ذلك. أثارت تلك الخطوة احتجاجات واضطرابات مدنية في كييف، العاصمة الأوكرانية، انتهت بهروب الرئيس، الأمر الذي أغضب روسيا كثيراً.
استخدم بوتين فراغ السلطة أولاً لضم شبه جزيرة القرم، في إجراء زعم الكرملين أنه تم بناءً على استفتاء جرى في شبه الجزيرة لمصلحة العودة إلى روسيا، استفتاء وصفه الغربيون بـ”غير القانوني وغير الشرعي”، وضمٌّ نددت به الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعدته بقرار لها غير قانوني أيضاً.
وثانياً قام بوتين بدعم الانفصاليين في المقاطعات الجنوبية الشرقية من أوكرانيا، دونيتسك ولوهانسك، المعروفتين باسم دونباس، لإعلانهما جمهوريات ذاتية الحكم. ثم وقعت روسيا وأوكرانيا اتفاقيات في مينسك (عاصمة بيلاروسيا) عامي 2014 و2015 بهدف وقف إطلاق النار في دونباس، حيث أدى الصراع هناك إلى مقتل أكثر من 14 ألف شخص وشرد الملايين. ورغم ذلك استمر انتهاك وقف إطلاق النار مع تحول الصراع إلى ما يشبه حرب خنادق.
عام 2019، تجدد الأمل في إحراز تقدم ما، حيث تبادلت روسيا وأوكرانيا الأسرى، وصرح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عام 2020 بأن هناك “فرصة كبيرة لإنهاء الحرب”، لكن الاشتباكات بقيت مستمرة. وفي ربيع عام 2021، بدأت روسيا حشد عشرات الآلاف من قواتها بالقرب من أوكرانيا رداً على ما وصفته بتهديدات من حلف شمال الأطلسي.
واليوم، وفي ظلّ تراجع أرقامه على المستوى الداخلي، حيث يقاوم الروس التطعيم وينددون بالصعوبات الاقتصادية التي تفاقمت في ظل وباء كوفيد-19، يتذكر بوتين التأييد الذي حصده داخلياً عندما ضم شبه جزيرة القرم، فهل ستؤدي حرب جديدة أو تصعيد جديد إلى تشتيت انتباه الروس عن المشكلات الداخلية وتعزيز شعبية بوتين من جديد؟ بالإضافة إلى ذلك.. يريد الرئيس الروسي استعادة الحوار مع الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، ولو بالإكراه، وأظنه قد نجح في ذلك من بوابة أوكرانيا.
ماذا يريد بوتين أيضاً؟
يفكر بوتين بإرثه المستقبلي، إذ يعتقد أنه لا يزال قادراً على إعادة روسيا قوة عظمى عالميةً لها عمقها الاستراتيجي الخاص، ولهذا لا يبدو أنه مستعد للسماح لأوكرانيا أو لكازاخستان بالخروج من المدار الروسي.
في 17 كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، نشرت روسيا مسودات اتفاقيات أمنية، أو ما يمكن تسميته بـ”المطالب”، تضمنت هذه المسودات بالعموم ما لا يريده بوتين – إذا جاز التعبير – فقد طالبت الناتو برفض عضوية أوكرانيا وغيرها من دول الاتحاد السوفياتي السابق، والتراجع عن نشر القوات والأسلحة في وسط أوروبا وشرقها.
كما طالبت بحظر إرسال السفن والطائرات الحربية، الأميركية والروسية، إلى مناطق يمكن أن تهاجم منها أراضي بعضها بعضاً، وكذلك وقف التدريبات العسكرية للناتو بالقرب من حدود روسيا.
لا تريد الدول الغربية استفزاز روسيا، مثلما فعلت الأخيرة بعلاقاتها مع كوبا فيديل كاسترو منتصف القرن الماضي، وإلا لكانت أوكرانيا منذ سنوات قد انضمت إلى حلف شمال الأطلسي، وباتت محمية بمعاهدات الدفاع المشترك الخاصة به، والتي تلزم الدول الأطلسية بالدفاع عنها في وجه أي اعتداء خارجي. لكن هذا لا يعني أن الغرب سينصاع لرغبات بوتين رسمياً، ومن هذا المنطلق وصفت الولايات المتحدة مطالب موسكو بأنها غير مقبولة، ورفض الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ إلغاء التزام عام 2008 تجاه أوكرانيا، وأكد أنه “عندما يحين الوقت.. لن تتمكن روسيا من الاعتراض على انضمام أوكرانيا للحلف”.
جاءت هذه الردود مخيبة للآمال الروسية، ولا تلبي الحد الأدنى من متطلباتها، فكان ردّ موسكو حشد المزيد من القوات العسكرية على الحدود الأوكرانية، سواء في بيلاروسيا أم في روسيا.
وفي الأسبوع الماضي، أشارت مصادر إلى أن الرئيس بايدن كان يفكر في نشر آلاف الجنود من القوات الأميركية، بالإضافة إلى السفن الحربية والطائرات، لدى حلفاء الناتو في دول البلطيق وأوروبا الشرقية. وهذه خطوة تشير بوضوح إلى تحول إدارة بايدن عن الجهود التي بذلتها سابقاً لتجنب استفزاز روسيا. ولكن مع تكثيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تهديداته، وفشل المحادثات بين المسؤولين الأميركيين والروس في نزع فتيل الأزمة، بدا أن إدارة الرئيس الأميركي غيّرت مسارها، مكتفية بالتهديدات “الفضفاضة” من قبيل أنه إذا أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا فسوف “تدفع ثمناً باهظاً، وسوف تكون في عزلة كبيرة، أو قد تفرض واشنطن عقوبات كبيرة يمكن أن تطال بوتين شخصياً ورفاقه في القيادة الروسية”.
هل تخشى روسيا العقوبات؟
أعتقد أن الحديث عن العقوبات ما زال مبكراً الآن، وهي من باب التهديد والضغط لمعرفة رد فعل موسكو. ولكن هل تؤثر هذه العقوبات في روسيا وإلى أي مدى؟
لقد وقعت روسيا مع الصين في اللقاء الأخير بين الرئيسين الروسي والصيني ما سُمي بالاتفاقية “اللامحدودة” أو “لا مجالات ممنوعة للتعاون”، وقد جاء هذا التفاهم بين الدولتين ضد أميركا وأوروبا، كما وقّعا اتفاقية خط غاز الشرق والغرب، في إشارة واضحة إلى تشكل نظام عالمي جديد ضد أميركا التي تدّعي تزعّم العالم. أكاد أجزم بأن ربطات العنق “الحمراء” المتماثلة، والتي ارتداها الرئيسان بوتين وشي جين بينغ خلال التوقيع، لم تكن من باب المصادفة أبداً، بل تحمل رمزية من ناحية اللون والمواقف أيضاً، فالدعم المتبادل سيتضح كثيراً في المرحلة المقبلة، الصين تدعم روسيا في أوكرانيا مقابل الدعم الروسي للصين في استعادة تايوان. إذاً، عقوبات بايدن لا تخيف بوتين كثيراً بعد التحالف مع الصين.
أضف إلى ذلك علاقات روسيا مع دول شرقية عدة، في مقدمتها إيران، والتي سواء وقّعت الاتفاق النووي مع الغرب أم لم توقع، فسوف تظل من حلفاء روسيا. بالإضافة إلى الاتفاقيات الموقعة بين روسيا والجمهوريات السوفياتية الآسيوية…
هذا لا يعني أن العقوبات لا تؤثر في روسيا، ولكن يمكن القول إنّ روسيا تخاف من منطق العقوبات لكنها لا تفكر به، حتى لو ألحق بها الأذى إلى درجة ما في ما لو حصل!!
لكن هذا لا يعني أيضاً أن روسيا ستعمد إلى اتخاذ قرار الحرب.
في مقالة نشرتها “فورين بوليسي” تحت عنوان «لماذا يعدّ تشبيه سياسة بوتين بـ”لعبة الشطرنج” خاطئاً» يذهب دانيال ب. باير إلى أنه “ليس أمام بوتين سوى خيار اللجوء إلى الحرب، ويتعين على الولايات المتحدة وحلفائها أن يستمروا في توخي الحذر والوقوف بحزم على عواقب أفعاله”. لا أتفق إطلاقاً مع السيد باير في رأيه هذا. ولا أتفق كذلك مع من يرون أن بوتين وضع نفسه في مأزق وحصر نفسه في الزاوية، أي: إما أن يغزو أوكرانيا فيقع تحت مقصلة العقوبات ويضاعف من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها روسيا اليوم، وإما أنه سيخسر شخصية القيصر الذي لا يتراجع في قراراته.
الاحتمال الأول مستبعد، لأن روسيا لن تعمد إلى حرب غير مضمونة النتائج. وما دامت تستطيع أن تحقق بالابتزاز جملة من أهدافها، بخاصة أن خيار الحرب لا يحمل خسائر لروسيا، فأميركا من جانبها لا تريد الحرب مع روسيا أيضاً، فهي بداية غير ملزمة باتفاقية مع أوكرانيا للدفاع عنها، بالإضافة إلى أن الغرب يدرك أن الحرب مع روسيا “مقامرة هائلة”، إذ تمتلك الأخيرة كامل القدرة على التوسع في أوروبا الشرقية، وبالتالي زعزعة الاستقرار في المنطقة الأوروبية بكاملها، ما قد يعرّض العالم للدخول في حرب عالمية ثالثة في الجزء الشرقي الذي انطلقت منه الحربان العالميتان الأولى والثانية. وفي الوقت ذاته أرى أن الاحتمال الثاني مستبعد أيضاً، لأن بوتين حريص ألا يعرّض شخصه لمثل هذه الهزة القوية التي ستنتج من تخليه أو تراجعه عن قرارات حازمة وحاسمة، فهو يرى نفسه حراً وليس في عنق الزجاجة!
إذاً، إن لم يكن أحد هذين الاحتمالين قائماً، فما هو بالتالي السيناريو المتوقع للأزمة الروسية الأوكرانية الراهنة؟ وكيف يمكن أن يكون الحل؟
تدرك روسيا حجم الأعباء الاقتصادية الناتجة من التصعيد الذي تنتهجه، وحجم التكاليف الباهظة التي يفرضها الحشد العسكري الذي تقوم به. لكن، وفي ميزان الربح والخسارة، قد تكون تكلفة روسيا أقل بكثير في مقابل التهديدات المتوقعة على الأمن الأوروبي الشرقي، وكلما طالت فترة الأزمة تكبدت أوروبا وأميركا أعباءً أكبر، بعضها اقتصادي من ناحية نقل الجنود والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا، وبعضها إنساني نتيجة حالة الهلع والقلق والضغط النفسي التي يعيشها الأوروبيون عموماً، والشعب الأوكراني على وجه التحديد، في ظلّ استمرار وسائل الإعلام ببث الأخبار عن أن الحرب باتت وشيكة، هذه الأخبار التي تجعل الاقتصاد الأوكراني موشكاً على الانهيار، والرئيس الأوكراني زيلينسكي يدرك تماماً مخاطر هذا التفاقم للأزمة، أو مجرد استمرارها.
كذلك، يجب أن نتذكر مستوى الضغط الذي تستطيع روسيا ممارسته على أوروبا بواسطة الغاز، فخط “ستريم 2” يمكن أن يلعب الدور الأكبر في معاقبة أوروبا إذا قررت روسيا توقيفه، لأن أوروبا حينها ستذوق طعم البرد الذي لا يمكن مواجهته..
في الوقت ذاته، يستفيد بوتين كثيراً في تعاطيه مع هذه الأزمة من ضعف بايدن وارتباكه في إدارتها، فالاتفاقية التي وقعها الأخير مع أمير قطر لتزويد أوروبا بالغاز، فيما إذا أوقفت روسيا صادراتها، لا تفي بسد الحاجة أولاً، كما يحتاج الغاز للكثير من الوقت ليصل إلى أوروبا عبر الناقلات.
وعلى صعيد مواز، تستفيد روسيا من وجود الديموقراطيين في الحكم اليوم، لقد قضم بوتين جزيرة القرم في عهد أوباما ويتحين الفرصة لحلحلة مشكلة دونباس أو إبعاد الناتو عن حدود روسيا في عهد بايدن عبر الضغوط والابتزاز. يدرك الروس أن أغلب أعضاء الحزب الديموقراطي هم من الكتاب ورجال القانون والأدب والصحافة، وحتى رجال أعمال منهم هم بالمجمل أصحاب شركات خدمية أو مختصة بتكنولوجيا الذكاء الصنعي وأجهزة الموبايل والبرامج وما شابه ذلك… وهم دائماً ضد الحروب، همهم الأساسي الدفاع عن حقوق الإنسان وقيم الحرية.. بعكس الحزب الجمهوري الذي يمتلك رجاله المصانع الضخمة من التكنولوجيا العسكرية أو التسليح والطائرات وغيرها.. لذلك لا يأبه الجمهوريون بخلق المشكلات لشن الحرب واستجرار الأموال.
إنّ فكرة ضعف الحزب الديموقراطي ورغبته في الحلول السياسية ورفضه لاستخدام الحرب في حل النزاعات يدركها العقل الروسي والصيني جيداً. ومن هنا سوف يستغل بوتين ضعف بايدن، والتضخم الذي تعانيه أميركا وأزمة كورونا التي عصفت بالمجتمع الأميركي بقوة، لتنفيذ مآرب روسيا في أوكرانيا.
وعليه ستتطور، حوادث الأزمة الحالية إلى سيناريوين اثنين، هما:
السيناريو الأول (المتفائل ربما!): الجلوس إلى طاولة الحوار لتوقيع اتفاقيات تهدف إلى إنهاء الأزمة في أوكرانيا، وربما غيرها في مناطق أخرى من العالم، والتي تتنافس فيها روسيا وأميركا، وأستبعد أن تكون المسألة السورية من ضمنها، وسيتحدد موقف روسيا من الصين وإيران بوصفها على قائمة الأعداء لأميركا.
وربما سيتم في هذه المفاوضات الاتفاق على أن يتعهد الناتو عدم الاقتراب من الحدود الروسية لمسافة جغرافية معينة لها ترتيباتها الخاصة (خطوط الطول والعرض..)، بحيث تتمكن روسيا من حماية أمنها القومي، في مقابل ترتيبات أمنية في منطقة دونباس وكل الأراضي الأوكرانية، وانسحاب القوات الروسية من الحدود الأوكرانية لمسافة يتم الاتفاق عليها أيضاً، وخفض التوتر والتصعيد من الجانبين الروسي والأوكراني. ولا أستبعد أن تقدم روسيا بعض الحوافز الاقتصادية لأوكرانيا في هذه الحالة.
السيناريو الثاني: يتمثل في الإبقاء على حالة التوتر في أوكرانيا وأوروبا مع المزيد من الضغوط الروسية والحشود العسكرية في الخارج، وقد تدفع روسيا نحو المزيد من التصعيد عبر نشر قواتها رسمياً في دونباس، وربما الاستيلاء على أجزاء من منطقتي دونيتسك ولوهانسك، في خطوة أولى تقيس من خلالها موسكو رد الفعل الغربي قبل المضي قدماً.
كذلك قد ترفع روسيا حدة التصعيد باستخدام ضربات عسكرية محدودة، لكن حاسمة أيضاً، كما فعلت مع جورجيا عام 2008. وبالطبع قد تلجأ موسكو إلى تحريك عملاء يشتغلون في الداخل الأوكراني، ربما لقلب نظام الحكم هناك. وليس هذا بالخيار المستبعد، فلروسيا – مثل ما لأميركا – تاريخ يشهد لها في المؤامرات الداخلية وقلب أنظمة الحكم في العالم.
هذه المقاربة الأخيرة والمتعلقة بجورجيا ستعيدنا إلى التاريخ غير البعيد الذي يمكن اعتباره نقطة عودة الصعود العالمي لروسيا، ليس في عهد بوتين الذي كان يحكم من وراء ستار، بل في عهد ميدفيدف حين ارتكبت أميركا ومعها الغرب “الخطيئة الكبرى” التي سيستفيد منها الروس كثيراً في المستقبل، وذلك حين كان شهر العسل بين الطرفين مستمراً من دون أي منغصات، بخاصة بعدما تغاضت روسيا عن احتلال أميركا للعراق (لعلها لم تكن قادرة حينها سوى على التغاضي وادخار ذلك للمستقبل)، وهذا ربما ما دفع الجمهوريين لاحقاً إلى عدم إدانة روسيا في غزو جورجيا عام 2008، وفي الحقيقة لو تنبهت الإدارة الأميركية بحزبيها الجمهوري والديموقراطي واتفقت مع أوروبا لاتخاذ قرارات ومواقف رادعة وحاسمة وعقوبات ضد روسيا التي كان اقتصادها آخذاً في النمو والازدهار آنذاك، لكان بوتين قد خشي هذه العقوبات بشدة وتفاداها مهما كلف الأمر من التراجع عن الكثير من مواقفه، وبذلك فلن يتجرأ لاحقاً على ضم القرم والتهديد باحتلال الدونباس، ثم التدخل لاحقاً في سوريا، ما سيسمح له بفرض نفسه، عسكرياً وسياسياً، في مواقع دولية أخرى. وبالاعتماد على النفس الطويل جداً في الترقب، والتفاوض، وحتى التحرك العسكري حين يقتضي الأمر.
إذاً، بوتين مطمئن لقوته وثبات خياراته، هو ليس مستعجلاً على إيجاد حل، ولديه كل الصبر حتى لو طال الانتظار، وإذا كان يوصف بـ”الدب الروسي” تقليدياً الذي يطول انتظاره لاصطياد طريدته، إلا أنه يشبه أكثر الثعلب القطبي الماكر الذي يتحين لحظة خروج الفأر من تحت الثلج ويجيد اقتناصه!! وعليه ستتمحور استراتيجية بوتين حول قدرته على المناورة على عامل الزمن، فهو عجوز سياسي محنك، ونفسه في الصراع طويل، ولا يخشى تعقد الأزمات، وله أيضاً باع طويل في اللعب على حافة الهاوية، من هنا لا أتفق مع إليوت أ. كوهين في مقالة نشرتها “ذي أتلانتك” أن “بوتين ليس بارعاً في الشطرنج”. فهو سيستمر بممارسة الضغط على أوكرانيا والغرب معاً، سيصعد تارة ويهدئ أخرى، وسيمارس دائماً سياسة الإكراه حتى تتم دعوته إلى التفاوض وإيجاد حل يرضيه للأزمة.