بقلم: حسام ميرو – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – ذكّرت الفترة القليلة الماضية العالم بأن الحرب الكونية هي أمر حاضر دائماً، وليست مجرد ذكرى من ذكريات القرن العشرين، فقد أثارت الحشود العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا قلق جميع الدول الفاعلة في النظام الدولي، ودفعت نحو حركة دبلوماسية مكوكية، بهدف منع حدوث اجتياح روسي، من شأنه – في حال حدوثه- أن يفتح الباب أمام احتمالات حرب واسعة النطاق، من دون أن يكون هناك أي يقين لدى أي طرف حول مآلات هكذا حرب، خصوصاً أن الأسلحة النووية الفتّاكة وغيرها من أسلحة الدمار الشامل موجودة لدى أكثر من طرف، وقد لا يكون للحسابات العقلانية أي مكان، فالحرب في الأساس هي اندفاعة خارج العقل والعقلانية بشكل أو بآخر.
لكن الحرب بين موسكو وخصومها الغربيين بالفعل قائمة منذ سنوات، فدخول القوات العسكرية الروسية لمنطقة القرم في عام 2014، كان بمثابة جسّ نبض لردود أفعال الخصوم، كما أن العقوبات الغربية، بشقيها الأمريكي والأوروبي، بعد دخول القرم، كانت متوقّعة من قبل موسكو، وأوضحت السنوات الماضية، أن تلك العقوبات لم تكن مؤثّرة في السياسات الروسية، ولا في الاقتصاد الروسي، والذي يقوم في جزء كبير منه على تصدير النفط والغاز؛ حيث تبلغ قيمة تلك الصادرات حوالي 40% من الميزانية الفيدرالية لروسيا، وهي في معظمها (صادرات الطاقة) تذهب نحو أوروبا، وخصوصاً إلى ألمانيا، قاطرة الاقتصاد الأوروبي.
ترى روسيا أن الغرب لم يعد صاحب إرادة قوية، وأن قوته اليوم؛ بل وجوده، مربوط فعلياً بالولايات المتحدة، وأنه لم يعد جذّاباً بدينامياته الثقيلة حتى لأعضاء فيه، وهو ما يؤكده خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتي ضاقت ذرعاً بالآليات البيروقراطية التي يديرها السياسيون والموظفون في بروكسل، كما أن أوروبا، ومن ورائها أمريكا، لم يعد لديهم سوى سلاح العقوبات الاقتصادية، بينما في واقع الأمر، فإن أوروبا هي من يحتاج إلى واردات الطاقة من روسيا، وقد أظهر مناخ الحرب مؤخراً حدوث تضخم كبير في الأسواق الأوروبية، كنتيجة مباشرة لمخاوف من حدوث نقص في الإمدادات.
خلال أسابيع، وكنتيجة للتهديد الروسي باجتياح أوكرانيا، هرب الدبلوماسيون الغربيون من العاصمة كييف، وانتابت الحيرة ألمانيا قائدة الاتحاد الأوروبي، ولم تجد ما تناصر به الجيش الأوكراني سوى الخوذ، وسارع قادة أوروبا للقاء الرئيس الروسي، ووضعت واشنطن سلّة من العقوبات الجديدة، الجاهزة للاستخدام، لكنها أعلنت بأنها لن تدفع بأي قوات لها في أوكرانيا، لأن الأخيرة «ليست في حلف الناتو»، وكل هذا يمنح روسيا موقعاً قوياً في التفاوض مع الغرب، لكنه في الوقت نفسه، يعد مؤشراً مهماً للصين في علاقاتها المتوترة مع الغرب، خصوصاً فيما يتعلق بخاصرتها الرخوة، تايوان، قد يدفعها للتفكير باجتياح تايوان، من دون أن تحسب أي حساب لردود فعل واشنطن وحلفائها الغربيين، فمثلما لا تستطيع أوروبا الاستغناء عن النفط والغاز الروسيين، فإن العالم بأسره لا يستطيع الاستغناء عن المصنع الصيني.
الصين وروسيا يعتقدان بأن زمن الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة على النظام الدولي، ينبغي له أن ينتهي، وأن تتم صياغة جديدة لهذا النظام، وما ينبثق عنه من أدوار ومصالح وثروات، وأن محاولة فرض منظومة القيم الليبرالية الغربية على المجتمعات ليست إلا شكلاً من أشكال الاستعلاء، وقد تحوّل إلى أيديولوجيا مكشوفة، الهدف منها تفتيت الدول القومية، المناهضة للسياسات الغربية.
ما تريده موسكو وبكين الوصول إلى اتفاقية «يالطا» جديدة، تعيد تقسيم مناطق النفوذ والمصالح، وأن يكون لهما حصصاً وازنة، تتناسب مع إمكاناتهما وقوتهما، على غرار ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث حددت اتفاقية «يالطا» آنذاك خارطة عالم ما بعد الحرب، لمصلحة القوى المنتصرة، وهي أمريكا، والاتحاد السوفييتي، وبريطانيا، ورسمت خارطة أوروبا لمدة عقود مقبلة، ومنحت الكثير من الشعوب حق تقرير مصيرها، لكن سقوط اتفاق «يالطا» مع سقوط الاتحاد السوفييتي، في عام 1991، أدخل النظام الدولي في حالة من الاضطراب، الذي صبّ في مصلحة واشنطن والغرب.
التحديات والعوائق أمام اتفاق «يالطا» جديد كثيرة، وقد لا تكون النتائج التي ستتمخّض عن الصراع حول أوكرانيا حاسمة بشكل نهائي، لكنها ستكون بالتأكيد مهمة في رسم ملامح الجولات المقبلة من الصراع، وإعادة الحسابات، ليس فقط ضمن القارة الأوروبية؛ بل في كل بقعة من العالم.