بقلم: نبيل فهمي – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- كتبت منذ أسابيع قليلة عن المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز، الذي تولّى المسؤولية عقب أعوام طويلة شهدتها بلاده تحت إدارة مستقرة لأنجيلا ميركل، وتناولت التوجهات المحتملة خلال ولايته الأولى من واقع تكوينه الشخصي وآرائه المسجلة. وتطرقت إلى بعض المواقف المتوقعة منه، وارتباطاً بذلك، ما هو منتظر كدور ألماني في أوروبا وعلى المستوى الدولي.
وبعد تولّي المستشار الجديد منصبه بأسابيع قليلة، توترت وبشدة الأوضاع حول أوكرانيا، وزاد الاهتمام بالمواقف الألمانية، وعجالة تحديد موقفها مع توتر علاقة الدول الغربية بروسيا تحت رئاسة فلاديمير بوتين من جانب، والولايات المتحدة من ناحية أخرى، على الرغم من أنها تعني وتصب في الساحة الأوروبية بصفة خاصة، وهو ما سلّط الأضواء على السياسات الألمانية وردود الفعل المنتظرة من المستشار الجديد. وكان ولا يزال في الأذهان دور قيادات ألمانية تاريخياً، التي حافظت على العلاقة الألمانية الغربية، مع تبني المواقف السياسية الحكيمة تجاه الاتحاد السوفياتي، والقيام بدور حلقة الاتصال والمفكر الاستراتيجي، والموجه والمنشط لدور دبلوماسي، يستهدف تجنب العنف واستخدام القوة إلا كآخر الخيارات، بغية تأمين أوروبا والعالم لصالح إيجاد معادلات سياسية توفر هدوءاً سياسياً يسمح بالتحاور، ويغذي سياسة “الانفراج السياسي” “Détente”، والسياسات تجاه أوروبا الشرقية المعروفة بـOstpolitik، وذلك من دون أن تخرج من بوتقة التوجه الغربي ومصالحها الاستراتيجية، علماً أن تلك المرحلة الناجحة لم تخلُ من نقاش جاد وحاد بين الحين والآخر عن الدور الألماني كحليف للغرب.
ومع تنامي التوتر حول أوكرانيا سريعاً فى الأسابيع الأخيرة، أُعيد طرح تساؤلات عدة حول الدور الألماني، تساؤلات مختلفة وأحياناً متعارضة من الأطراف الفاعلة في الساحة، تتساءل روسيا عن الدور السياسي والدبلوماسي التاريخي لألمانيا واستعادته من عدمه، وأميركياً وغربياً تصب الأسئلة حول مصداقية الموقف والدور الألماني كحليف حقيقي وقوي للغرب صامد أمام الشدائد، خصوصاً أنه على الرغم من قوة الاقتصاد الألماني، فإنها لم تحقق الهدف الذي حدده الحلف الأطلنطي بإنفاق 2 في المئة من إجمالي إنتاجها القومي على موازنتها العسكرية.
طرحت هذه التساؤلات المتباينة سريعاً وكثيراً في الآونة الأخيرة، كما رأى البعض أن حكومة المستشار أولاف شولتز لم تكُن مستعدة بوجه كافٍ لمواجهة أزمة بهذه الخطورة والحساسية، وانتقدت ألمانيا عندما رفضت توفير مساعدات عسكرية جادة لأوكرانيا، واكتفت بعرض توفير بعض الخوذات العسكرية، ووصل الأمر إلى اتهام برلين بأن لها ميولاً غير معلنة لصالح بوتين، وهي اتهامات في غير محلها وإنما متوقعة في ضوء سياسات ومواقف ألمانيا الراسخة ومصالحها المباشرة.
ويعلم كل متابع للسياسات أن ألمانيا تتردد منذ الحرب العالمية الثانية في توفير دعم عسكري أو الاشتراك في عمليات عسكرية ضد دول أخرى، بل إنها عارضت غزو العراق عام 2003 والتدخل في ليبيا في 2011، وهذا مع مشاركة قواتها المسلحة في عمليات عسكرية في أفغانستان ومالي وكوسوفو والصومال، في حالات كانت خليطاً بين التصدي للإرهاب والعمليات المرتبطة بحماية المدنيين، في سياق قرارات وتغطية سياسية من الأمم المتحدة، إلا أن ألمانيا من أكبر مصدري السلاح عالمياً، ما جعلها معرّضة لانتقادات شديدة واتهامات بأن خياراتها العسكرية بغرض الربح المالي من دون تحمّل مخاطر أو أعباء أمنية حقيقية.
وهناك اعتبارات ألمانية أخرى تجعل البعض يتساءل بالنسبة إلى الوضع في أوكرانيا، ومنها التوجه الألماني للتخلي عن توليد الطاقة من مصادر نووية وكذلك من الفحم، وهو ما يعني الاعتماد المتزايد على الغاز الروسي عبر خط أنابيب “نورد ستريم 2″، الذي يصل إلى ألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق، وهذا إضافة إلى ضخامة حجم التعاون الاقتصادي بين برلين وموسكو، الذي يفوق حجم التعاون من قبل أي دولة أوروبية أخرى.
وهذه الاعتبارات المتعددة جعلت الموقف الألماني لا يتعدى الدعم السياسي للموقف الغربي من التوتر في الساحة الأوكرانية، إلا أنه موقف يصعب استمراره من دون أن تفقد ألمانيا المصداقية كحليف غربي، إذا احتد التوتر حول أوكرانيا، وشهد صداماً عسكرياً بالفعل.
خيارات صعبة أمام المستشار الجديد، وإنما هي أسئلة راسخة في الأذهان منذ زمن طويل، وآن الأوان أن تدخل ألمانيا في نقاش مجتمعي جاد حولها، وأن تشارك بجدية ومبادرة في تشكيل موقف سياسي أوروبي خارجي مؤيد لأميركا، وإنما من دون أن يكون محكوماً بتوازنات الدول الكبرى، أو متسرعاً في استخدام القوة ضد الغير.
على ألمانيا الآن اتخاذ مواقف وخيارات محددة، قرارات صعبة على الرغم من حداثة الحكومة الألمانية الجديدة، وأمامها تنشيط دورها العسكري في التصدي للضغط الروسي، وهو ما يستبعده كثير من المحللين الألمان، نظراً إلى أن المجتمع الألماني لا يزال يعيش بعقدة ذنب ثقيلة عن تجاوزاته خلال الحرب العالمية الثانية، ولا يتقبل دوراً ألمانياً عسكرياً صدامياً وفي الصدارة.
وفي غياب هذا الخيار، ليس أمام برلين سوى تحمّل الثمن الاقتصادي الضخم حفاظاً على مصداقيتها كحليف للغرب، من خلال إلغاء أو تجميد خط الأنابيب “نورد ستريم 2” والحد من تعاونها الاقتصادي مع روسيا، وذلك في الوقت ذاته الذي تؤكد لحلفائها في الغرب أنها لا تحبذ الأعمال العسكرية، وستدعم أوكرانيا سياسياً في أوروبا واقتصادياً.
وليس من المبالغة القول إن المستشار الجديد شولتز عليه اتخاذ قرارات تاريخية وصعبة، قرارات لن تريح المجتمع الألماني إذا تبنّى مواقف عسكرية ناشطة على غير العادة، ولن يرحب بها مؤيدوه إذا ظل ساكناً وخلق جرحاً مزمناً بين بلاده وحلفائه التقليديين في الغرب، أي أن صداها الوطني في جميع الأحوال لن يكون إيجابياً، واتخاذها لن يكون سهلاً لأنه يمثل تآلفاً حزبياً متنوعاً، ويواجه ساحة دولية مضطربة، ومرحلة تحوّل أوروبية حساسة تسعى فيها القارة العجوز إلى تحديد هويتها ومكانها في الساحة الدولية.
وأمام تلك الأوضاع والاعتبارات والخيارات الصعبة، نشط المستشار الألماني دبلوماسياً في جولة محمودة بزيارة روسيا وأوكرانيا، سعياً لوقف التصعيد ولتجنب عمليات عسكرية تحمل في طيّاتها مخاطر جمة، وتفرض عليه اتخاذ قرارات صعبة. وستسجل الأيام المقبلة نتائج هذا الجهد، وعما إذا كنا على مشارف إعادة الاستقرار من جديد أو عند مفترق طرق ألمانياً وأوروبياً ودولياً.