بقلم: أسعد عبود – النهار العربي
الشرق اليوم- لا يمكن النظر إلى قرار فرنسا وشركائها الأوروبيين بالإنسحاب العسكري من مالي، على أن مرده تصاعد الخلاف بين باريس والحكومة العسكرية في باماكو فحسب. بل لا بد من إمعان النظر في هذا التطور الخطير وإنعكاساته، على مجمل المواجهة الجارية مع التنظيمات الجهادية في منطقة الساحل في غرب أفريقيا، التي تضم إلى مالي كلاً من بوركينا فاسو والنيجر والتشاد وموريتانيا.
فضلاً عن ذلك، فإن خطوة بهذا الحجم لا بد من وضعها أيضاً في سياق تغيير جيوسياسي بدأ يلامس دولاً إفريقية عدة، بسبب تجدد الحرب الباردة بين الغرب وروسيا.
ومن ليبيا في شمال أفريقيا إلى غرب القارة السمراء إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، يتغلغل النفوذ الروسي مجدداً، ويتخذ من مجموعة “فاغنر” الأمنية الروسية رأس حربة لتأمين المصالح الروسية في أفريقيا.
ومن سوء حظ الدول الصغرى أنها عادة ما تقع ضحية لعبة الأمم وتدفع ثمناً باهظاً نتيجة التجاذبات بين القوى العظمى. وليبيا واحدة من تلك الدول التي عادت مجدداً ساحة تجاذب دولي.
والمسؤولون الروس يذكرون دائماً أن الغرب خدعهم بواسطة قرار مجلس الأمن الرقم 1973، الذي استغله حلف شمال الأطلسي كي يتدخل عسكرياً إلى جانب المعارضة الليبية ويطيح بنظام معمر القذافي عام 2011… ومعه بالمصالح الروسية في بلد كانت روسيا هي أكبر المستشمرين فيه.
بعد 11 عاماً على إسقاط القذافي، تبدو روسيا اليوم هي غير روسيا في 2011. وعندما رأت أن الفرصة سانحة لاستعادة نفوذها في ليبيا، فإنها لم تتأخر. وهي تطالب اليوم بأن يكون لها كلمة مسموعة في تقرير شكل البعثة الأممية، التي تتولى الإشراف على العملية السياسية، بينما مقاتلو شركة “فاغنر” الأمنية الروسية يتولون دوراً مباشراً على الأرض في شرق البلاد.
وأحد المآخذ الرئيسية لفرنسا على المجلس العسكري الحاكم في مالي، إستعانته بمقاتلي “فاغنر” بعد الضغوط التي مارستها باريس والدول الأوروبية على العسكريين كي يفوا بوعودهم ويجروا انتخابات تشريعية ورئاسية كما كانوا وعدوا عندما نفذوا إنقلابين عامي 2020 و2021. لكن هذا الوعد ذهب أدراج الرياح … ومعه بدأ التدهور في العلاقات بين فرنسا ومستعمرتها السابقة. وانتهى الأمر بقرار الرئيس إيمانويل ماكرون الخميس الماضي ببدء الانسحاب العسكري من مالي بعد مضي نحو تسعة أعوام على عملية “برخان” لمحاربة الجهاديين في شمال مالي ووسطها.
والانسحاب الفرنسي والأوروبي يؤذن ببدء مرحلة سياسية وأمنية جديدة في دول الساحل التي طالما تمتعت فرنسا بنفوذ واسع فيها.
والسؤال الآن، كيف يمكن أن ينعكس خفض الوجود العسكري في المنطقة على قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي والتي تضم 15 ألف عسكري، وكانت تتلقى دعماً من القوات الفرنسية في بعض الأحيان؟ وكيف يمكن أن يستغل الجهاديون الانسحاب الغربي لتعزيز نفوذهم، في حين أن مجموعة “فاغنر” الروسية تعتبر القوة التي يمكن أن تملأ الفراغ الناشئ؟.
وهذا ما يؤكد أن لعبة أمم كبرى تجري الآن في غرب أفريقيا ودول أفريقية أخرى. وغالباً ما تذهب الدول الصغرى ضحية لهذه اللعبة، وينعكس ذلك عليها بتصاعد التوترات والنزاعات الداخلية.
وإذا كان ثمة من استطراد، فإنه تجدر الإشارة إلى سياق عالمي جديد في الأحداث منذ الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان، إذ لم تمضِ بضعة أشهر على هذا الانسحاب، حتى انفجرت الأزمة الأوكرانية، التي هي اليوم عنوان لتجدد الحرب الباردة بكل معاييرها.
ولا بد للاستقطاب الغربي – الروسي، أن يمتد بتأثيراته إلى أكثر من دولة في العالم وإلى حيث تصطدم المصالح بين الجانبين.