بقلم: إيلان بيرمان – الحرة
الشرق اليوم- إن سألتَ أي مراقب لأوضاع الشرق الأوسط عن الصراع ما بين روسيا والغرب حول أوكرانيا، سيقابلُك بنظرة استغراب. ففي المنطقة لا تزال احتمالية غزو روسي واسع النطاق على الجمهورية السوفيتية السابقة أمرا بعيد الوقوع، بل موضوعا يثير الفضول أكثر من كونه سببا يدعو لهاجس حقيقي.
وفي إسرائيل (التي تعد موطنا لشتات روسي كبير وليس بالضرورة مناهض للكرملين)، لا توجد هناك مخاوف بشأن المغامرات التي يخوضها الرئيس الروسي في سياساته الخارجية. رغم أنه يجدر ذلك، لأن الحرب في أوكرانيا من شأنها أن تخلّف أثرا عظيما عبر أرجاء الشرق الأوسط.
ويعود السبب من وراء ذلك كله إلى الغذاء، فأوكرانيا حظيت على الدوام بلقب “سلة الخبز” الأوروبية، وهناك تفسير جيد لذلك، فالدولة توفر حاليا نصف كمية الذرة للقارة بأكملها، بالإضافة إلى ربع الصادرات الأوروبية من الحبوب وزيت الخضار. وأوكرانيا هي لاعب أساسي في الأمن الغذائي الخاص بالشرق الأوسط أيضا، فوفقا لتقديرات وزارة الزراعة الأميركية، أرسلت أوكرانيا نصف إنتاجها من الشعير و40 في المئة من طحين القمح إلى المنطقة في عام 2020. وفي المقابل، أصبحت دول الشرق الأوسط معتمدة بشكل كبير على أوكرانيا في أمنها الغذائي.
لنأخذ إسرائيل على سبيل المثال، إن اجتاحت روسيا أوكرانيا، فإن ذلك يحمل احتمالا بتخريب كامل للدولة اليهودية، وشرح المؤرخ شمعون بريمان، في مقال نشر بجريدة “هآرتس” مؤخرا أن أوكرانيا “كانت مزود القمج الأساسي لإسرائيل منذ أكثر من عقد”، ويضيف أن “الاستيراد من أوكرانيا يشكل حوالي 50 في المئة من الاستهلاك الإسرائيلي للقمح والحبوب الأخرى، ولنفهم حجم ما تعنيه خسارة القمح الأوكراني، اقسم ببساطة شطيرة طفلك إلى نصفين، ورغيف الخبز الذي اشتريته لوجبة الفطور واحتفظ بها في مكان لا يمكنك الوصول إليه، لأنه لن يكون باستطاعتك فعل ذلك”.
الأمر ذاته قد ينطبق أيضا على دول الشرق الأوسط الأخرى، فمصر، مثلا، تعد أكبر مستهلك للقمح الأوكراني، وقد استوردت أكثر من ثلاثة ملايين طن، أي قرابة 14 في المئة من إنتاج أوكرانيا الكلي من القمح، في عام 2020.
والتوترات الأوكرانية الروسية الحالية ساهمت منذ الآن في رفع أسعار السلع حول العالم بقرابة 10 في المئة، ما دفع بالحكومة المصرية إلى رفع الأسعار المحلية، وإن وقعت حرب واسعة النطاق فعلا وأدت إلى انقطاع أوكرانيا كمزود أساسي، قد نشهد ارتفاعا في انعدام الأمن الغذائي، واحتمال وقوع اضطرابات اجتماعية، على طول نهر النيل.
أما لبنان، فوضعه على الأرجح الأسوأ، لأن أوكرانيا تزوده حاليا بأكثر من نصف استهلاكه الكلي من القمح (55 في المئة). وهذه المؤونة، بالنسبة لدولة تعاني أصلا من انهيار اقتصادي، بالكاد يمكنها الاستغناء عنها.
وبالشكل ذاته تعد أوكرانيا مصدرا لـ 43 في المئة من الاستيرادات الليبية من القمح، وفي تركيا، بعهد رجب طيب إردوغان، يشكل القمح الأوكراني ربع الاستهلاكي الكلي للقمح. وبرزت كييف كمصدر مهم للقمح لدى المملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة.
وهذا كله ليس طرحا نظريا فحسب، فالنزاع مع روسيا، بالأخص إن أصبحت حباله طويلة، سيختبر قدرة أوكرانيا على تزويد محاصيلها للشرق الأوسط، وفي المقابل، فإن أي حجب للصادرات الأوكرانية من السوق سيخلق نقصا غذائيا حقيقيا، ما قد يدفع بالحكومات الإقليمية إلى التزاحم للعثور على بديل.
وكنتيجة لذلك، قد ترتفع أسعار الغذاء عالميا، والتي تشهد في الأصل أعلى زيادة منذ عشر سنوات.
العواقب المرجحة وخيمة. فالمرة الأخيرة الني وصلت فيها أسعار الغذاء لمستويات مثل هذه كانت قبل عشر سنوات، عندما اندلع الربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فثورات الربيع العربي “بدأت عام 2011، بعد أن حظرت روسيا الصادرات (من القمح) في عام 2010″، وفقا لما يشير إليه خبير الغذاء والباحث في مركز “SovEcon” (مركز متخصص في الأبحاث الزراعية بمنطقة البحر الأسود)، أندريه سيزوف في مقابلة مع صحيفة “بوليتيكو”.
ويقول: “بالتأكيد لم يكن (القرار الروسي) الدافع الوحيد والأكبر (لثورات الربيع العربي)، بل كانت شرارة”.
وبهذا، هل يمكن أن نشهد الديناميكيات ذاتها اليوم؟ جزء كبير من ذلك يعتمد على الاتجاه الذي قد يتخذه النزاع الروسي-الأوكراني. لكنه كاف لإثارة مخاوف دول المنطقة لتبدأ بالتفكير فيما قد يحصل بأوكرانيا أكثر من كونها مجرد قضية بعيدة لا تخصها.