الشرق اليوم– أولى التحولات المطلوبة والمأمولة في النظم الصحية تكمن في ضرورة توسيع قدرات الخدمات الصحية. عانت النظم الصحية، وما زالت، من ضغوط هائلة كأحد أهم تداعيات جائحة كورونا العالمية، فالقصور الشديد في القدرات الاستيعابية للمستشفيات والمراكز الطبية في أوقات ذروة الجائحة، والعجز الكبير في اللقاحات، والأدوية، والمستلزمات الصيدلانية، والضغط المتزايد على الكوادر الطبية، وقصور التمويل عن مواكبة الاحتياجات الطبية الطارئة التي خلقتها الجائحة، شكلت كلها مصدر ضغط شديد على الأنظمة الصحية في العالم.
ويمكن، من هذا المنطلق، القول إن امتحان كورونا بالنسبة للنظم الصحية العالمية كان امتحاناً عسيراً تجاوزته بشق الأنفس بسبب مستويات الضغط غير المسبوقة عليها، والتي جعلت منحى تطورها يشهد تحولات كثيرة أصبح معاً أمرُ تفعيل تغييرات جذرية في طرق عملها وآلياتها أولوية ملحة، ليس فقط لتمكينها من الصمود في وجه هذه الجائحة المستمرة فحسب، بل ولتستوعب ما يتوقع أن يطرأ من تغيرات وتهديدات متلاحقة في بيئة الصحة العالمية.
إن أولى التحولات المطلوبة والمأمولة في النظم الصحية تكمن في ضرورة توسيع قدرات الخدمات الصحية. ولكي تتوسع هذه القدرات في أي دولة لمواجهة الجوائح والظروف الطارئة من الطبيعي أن يكون التفكير في المزيد من الاستثمارات الحكومية والخاصة لتعزيزها، غير أن التفكير في دعم هذه القدرات لا يمر فقط عن طريق بناء المستشفيات والمراكز الصحية فقط، بل تسبقه ضرورة تعزيز الإنفاق على مؤسسات التعليم الطبي العالي والمتوسط وزيادة كفاءتها. وبتأمل آليات توزيع الخدمات الصحية وسط موجات جائحة كورونا، فإن تطوير آليات جديدة أكثر فاعلية يعتبر حاجة ملحة، ويمثل ثاني التحولات المأمولة في النظم الصحية لعالم مع بعد الجائحة، فالتغطية الصحية الشاملة لكافة سكان ومناطق وأقاليم أي دولة لا تعني مجرد ضمان الرعاية الطبية العاجلة والمستمرة حال الإصابة بالأمراض، وإنما تمثل مفهوماً واسعاً النطاق للوقاية الاستباقية والمانعة لتفشي أي مرض، مع التصدي للظواهر السالبة للصحة العامة. كما تعني أيضاً توافر أُطر لحماية البيئة من مخاطر التلوث الناشر للأوبئة.
وثالث التحولات المأمولة للنظم الصحية في عالم ما بعد الجائحة تدور حول تنمية الاستثمارات في البنى الأساسية الصحية وتطوير آليات اقتصادية مبتكرة للتغطية التأمينية لكافة سكان أي دولة، والتحدي الأساسي الذي يظهر، في هذا الصدد، يتمثل في أن هذه التغطية التأمينية تنوء بحملها الموازنات العامة، مهما كان مستوى التقدم الاقتصادي القائم، ذلك أن أكثر النظم الصحية العالمية الكفاءة لم يكن لها ذلك من دون تطوير نظمها التأمينية.
ويتعين، لتدبير التمويل اللازم لهذه النظم التأمينية، ابتداءً الاستفادة من دروس التجارب الرائدة في هذا الشأن، وحشد كافة بدائل التمويل العام، والخاص، والعائلي، وتوجيهه للاستثمارات التي يحتاجها القطاع الصحي وتتطلبها الأنظمة التأمينية حتى يتوسع الإنتاج الصحي، وتمتد مظلته لتكون تغطيتها شاملة، ومن دون هذا، ستزداد، دون شك، التحديات المستقبلية الملقاة أمام الأنظمة الصحية العالمية، وخصوصاً في الدول الآخذة في النمو.