بقلم: د. علي الخشيبان – صحيفة “الرياض”
الشرق اليوم – المشهد العالمي السياسي اليوم أصبح أكثر دقة وأكثر حساسية حول قضايا رئيسة مهمة يمكنها أن تغير العالم إلى الأبد، وقد أصبحت العلاقات الدولية وتطوراتها بحاجة إلى تفكيك لفهم الأوجه المختلفة لتلك السياسيات الدولية، وتشكل القضية الأوكرانية مسرحاً جديداً لتنافس يفتقد إلى التكافؤ الأيديولوجي، ويجبر أميركا بشكل غير مباشر على إعادة حساباتها في معايير القوة وآليات خلق التكتلات الدولية التي أصبحت تطل من البوابة الأمامية للنظام العالمي، فالصين وروسيا أصبحتا الشكل الجديد من المغناطيس السياسي القادر على تشكيل التكتلات الدولية من جديد، وقد تحصل أميركا على تماسك حلفائها في أوروبا وتعيد اكتشاف مهام حلف الناتو من جديد والموجهة نحو روسيا كما في الماضي، ولكن في الوقت ذاته سيكون من الصعب على أميركا إثبات أنها القادرة الوحيدة في هذا العالم.
فالعالم اليوم يعيش نسخة محدثة من الحرب الباردة بين روسيا وأميركا، ويعيد إلى الأذهان صورة برلين التي كان يقسمها جدار يفصل بين المعسكرين الروسي والأميركي، وقد نقل عن وزير الخارجية الأميركي بلنكن في تصريح سابق له في برلين الألمانية قوله: «إن أي غزو روسي لأوكرانيا – وهو ما تخشى دول الغرب حصوله في أي لحظة- من شأنه أن يعيد العالم إلى فترة كانت فيها هذه القارة – يقصد أوروبا – وهذه المدينة مقسومة نصفين.. وشبح حرب شاملة يلقي بثقله على الجميع».. السؤال الأهم: هل يمكن أن يؤدي هذا التنافس إلى حرب فعلية أو مواجهة مقلقة؟ يجيب على هذا السؤال أحد أبرز السياسيين في أميركا (جون بولتون) الذي قال: «إن المواجهة المباشرة الحالية تفتقر إلى المكون الأيديولوجي للشيوعية مقابل الديموقراطية الليبرالية، والذي شكل إطار الحرب الباردة». من الواضح أن افتقار المواجهة الروسية – الأميركية إلى أيديولوجيا محفزة يمكن الاستناد عليها يفقدها الكثير من الأدوات لصالح روسيا في مقابل الليبرالية الأميركية التي أصبحت تستخدم شخص بوتين ومهارته السياسية كبديل مناسب لتلك الأيديولوجيا، جون بولتن قال أيضاً: «المسألة المباشرة التي نواجهها لا تتعلق فقط بأوكرانيا، بل بمحاولة بوتين إعادة تأكيد السيطرة الروسية على الاتحاد السوفياتي السابق، أو على أقل تقدير فرض هيمنة روسية عليه»، وكما يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يؤمن أن سقوط الاتحاد السوفيتي السابق لم يكتمل بعد أو لنقل إنه غير مقبول في موسكو إلى اليوم، وهذا واضح.
فالسياسة التي يتخذها الرئيس بوتين ترسخ هذه الفكرة التي تجد لها من الدعم الشيء الكثير، فأميركا التي تهدد العالم يومياً بأنها ترغب بالانسحاب من التمادي بأزمات العالم، فقد أصبح من النادر أن يلقي الرئيس بايدن خطاباً لا يذكر فيه العالم من حوله بأن أميركا ستخفف من وجودها الدولي، ومن الطبيعي أن تلتقط روسيا هذه الإشارة لتحقق هدفين مهمين؛ الأول: إفشال توجهات بايدن السياسية بتصريحاته الرامية إلى القول إن أميركا تخفف من وجودها على الساحة الدولية عسكرياً، وإن أميركا تخدع العالم بهذه الفكرة فهي تعزز من وجودها العسكري في أوروبا، وثانياً: تأكيد فكرة الرئيس بوتين بأن روسيا لم تخرج من منافسة القمة الدولية، وأنها موجودة بفضاء استراتيجي يستحيل تجاوزه عبر رفض إحاطتها بقوى حلف الناتو.
ومع كل هذه الخيارات إلا أن خيار المواجهة العسكرية ليس مطروحاً تماماً؛ لأن فكرة الانتصار في حرب بين قوتين نوويتين هو ضرب من الخيال، فالجميع سيخسر، ولذلك فإن الحرب تدور بشكل مباشر حول الحسابات الاستراتيجية والجيوسياسية وليس أكثر من ذلك عبر استخدام الأدوات الاقتصادية وهذا ما يؤكده الخبراء، ولذلك من المهم استبعاد فكرة الحرب بشكلها العسكري التقليدي كونها خياراً نهائياً حاسماً ستنعكس آثاره على العالم أجمع، وقد قال وزير الخارجية الروسي: إن على أميركا عدم تجاهل مخاوف روسيا فيما يخص الوجود العسكري والدبلوماسي الأميركي على حدودها، ومن الطبيعي أن ذلك إشارة واضحة إلى رفض قاطع لفكرة وجود حلف الناتو على مقربة من الأراضي الروسية.
الصيغة الأقرب لتطورات المنافسة الروسية الأميركية حول أوكرانيا لا تستبعد الدخول السريع في مواجهة من نوع أقوى وأكثر تأثيرا، فالحرب الاقتصادية والحصار المالي والعقوبات على الأفراد وبناء التكتلات واستخدام سلاح الطاقة ومشروعات بدائل الغاز الروسي كلها أدوات مازال يملكها الغرب، ولكن روسيا أيضاً تملك في المقابل قدرات تقنية وتكنولوجية وسيبرانية قادرة على أن تعطل المشروعات الأميركية، كما تملك الفرصة لبناء تحالفات استراتيجية أعمق مع الصين المنافس الأقوى لأميركا.