بقلم: جمعة بوكليب – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – الخبر الذي قرأته في صحيفة بريطانية، يوم الأربعاء الماضي، كان، من وجهة نظر شخصية، جديراً به أن يكون عنواناً ببنط كبير في صدر الصفحة الأولى، لأهميته. لكن الصحيفة، لأسباب غير واضحة لي، اختارت له زاوية صغيرة في الصفحة الثانية، تحت عنوان: «هجوم إلكتروني شُن ضد وزارة الخارجية». وكأنه خبر عادي جداً، وليس بمستوى ما تنفرد بنشره الصفحة الأولى من أخبار.
هجوم إلكتروني شنته جهة معادية غير معروفة ضد وزارة الخارجية البريطانية في الشهر الماضي. الهجوم من الخطورة بحيث اضطرت الوزارة إلى كتم الخبر طوال شهر كامل، وإلى الاستنجاد العاجل بشركة (BAE) للمساعدة في حل المعضلة غير المعروفة التي لحقت بنظامها الإلكتروني، ومعالجة أضراره.
الخبر لم يشر، من بعيد أو قريب، إلى الخسائر التي تسبب فيها الهجوم المفاجئ، وذلك لأسباب أمنية تتسم بالسرية، ولا الجهة التي قامت به. هناك إشارة باهتة إلى إمكانية أن تكون روسيا متورطة في الهجوم. وهناك إمكانية أن يكون بفعل عصابة إجرامية. أضف إلى ذلك، عدم وجود ما يدل على أن الحكومة البريطانية على علم بمصدره. الحكومة البريطانية، تعودت، في هجمات إلكترونية سابقة، الإعلان عن مصدر الهجوم لدى توفر المعلومات لديها. ووزارة الخارجية اضطرت، على وجه السرعة، إلى دفع مبلغ نقدي يقارب نصف مليون جنيه إسترليني للشركة المذكورة أعلاه. وأوضحت الوزارة أن الشركة منحت العقد من دون مناقصة بسبب الظرف الطارئ.
الهجوم المذكور تزامن مع اشتداد حدة التوتر بين روسيا من جهة وأميركا وحلفائها من جهة أخرى، فيما صار يعرف باسم الأزمة الأوكرانية، حيث تحتشد القوات والآليات العسكرية الروسية في حالة تأهب للهجوم، وحيث القلوب، في أنحاء العالم، تكاد تبلغ الحناجر خوفاً مما يمكن أن يؤدي إليه الموقف من كارثة على السِلم الدولي، لو لم يتم نزع الفتيل المشتعل من القنبلة، في أقرب وقت. الدلائل والمؤشرات، حتى الآن، لا تفيد بإمكانية الوصول إلى اتفاق يقي أوكرانيا شر الغزو الروسي، ويحفظ العالم من مغبة حرب كونية. وكل الأضواء، حالياً، مسلطة على تتبع جهود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمحاولة إطفاء الفتيل. لا أحد يعرف على وجه التحديد الطريق الذي سوف تسلكه تطورات الأزمة، وما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيقبل بسحب القوات، مقابل حصوله على ضمانات مكتوبة من واشنطن وحلفائها، تضمن عدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، ومنع وجود قوات الحلف في دولة تجاور روسيا، بشكل يهدد أمنها القومي.
التقدم التكنولوجي السريع في الصناعات العسكرية وصل، في وقتنا الراهن، إلى درجة عالية من التعقيد. المختبرات العلمية في الشركات المتخصصة في صناعة الأجهزة العسكرية تجري تجارب على نوعية جديدة من الطائرات المقاتلة من دون الحاجة إلى طيارين، باستخدام الذكاء الصناعي (Artificial Intelligence). الطائرات الجديدة، وفقاً لتقارير إعلامية، سوف يكون بإمكانها القيام بكل المتطلبات القتالية في الجو اللازمة لأداء المهام المنوطة بها، ومن ضمنها الاعتراض، والهجوم، والمناورة… إلخ. ولم يعد سراً كذلك، أن حروب المستقبل لن تكون في حاجة إلى إرسال قوات، وتحمل خسائر بشرية. لكن ذلك التقدم التكنولوجي المذهل وما يحققه من فوائد، ليس بمنأى عن الضرر. ذلك أن حقول التقنية العلمية لم تعد حكراً على دولة من دون أخرى. على سبيل المثال، صار بإمكان دولة صغيرة مثل كوريا الشمالية تهديد دولة عظمى مثل أميركا. هذا الانتشار التقني عالمياً جعل من الممكن لدولة أن تتسلل إلكترونياً إلى نظام دفاعي لدولة أخرى، وتسبب له شللاً مؤقتاً، أو ربما إعاقة قاتلة. في هذا السياق، وداخل هذا الإطار تحديداً، من الأفضل لنا قراءة خبر الهجوم الإلكتروني على وزارة سيادية مهمة، مثل وزارة الخارجية البريطانية، وفي وقت يتسم بحساسية سياسية وتوتر استثنائي دولياً، لم يشهده العالم منذ أزمة الصواريخ الكوبية في الستينات من القرن الماضي.
المسافة الزمنية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية كانت قصيرة نسبياً، ولا تتجاوز عقدين من الزمن، لكن التقدم خلال تلك الفترة الزمنية الذي شهدته الصناعات العسكرية كان واضحاً، وغير قابل للمقارنة فيما يتعلق بنوعية الأسلحة المستخدمة في كل منهما. وخلال المسافة الزمنية التي تفصلنا عن نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، وصلت الصناعات العسكرية إلى آفاق غير مسبوقة. وها نحن، حالياً، نعيش في زمن مختلف، أطلقوا عليه اسم زمن الحروب الإلكترونية، حيث تشن الحروب من وراء أبواب مغلقة، وبمجرد الضغط على أزرار إلكترونية. استعدوا.